لحكمة الإنسان مصدران: البشر والله.
الحكمة البشريّة تأتي من الخبرة المتوارثة والثقافة وخبرة الإنسان الشخصيّة. إنّها حكمة ضيّقة الأفق، مشروطة بالعادات والتقاليد، ولكنّها تستطيع أن ترتقي إلى مستوياتٍ عالية كما هو الحال لدى الفلاسفة. هذه الحكمة مكتسَبة.
الحكمة الإلهيّة قوّة سرّيّة تأتي من الله وتحلّ على إنسانٍ يرعبها. إنّها تعتمد على علاقة الإنسان بالله، وعلى اختباره الإيمانيّ. إنّها حكمة واسعة الأفق، مطلقة، تغوص إلى عمق أعماق الأمور، وتخالف في غالب الأحيان الحكمة البشريّة التي تمّت صياغتها بعقلٍ تستعبده الخطيئة. هذه الحكمة تُعطى بهبة.
في غالب الأحيان يعاني المؤمن صراعًا بين حكمة البشر فيه وحكمة الله الحالّة عليه. فحكمة البشر تعمل بمنطقٍ المصلحة الشخصيّة، منطق الأنانيّة، الأنا أوّلاً، وتعمل بما هو شائع بين الناس كموقفٍ أو تصرّفٍ. والشائع بين الناس منبعه ثقافة ملوّثة بالخطيئة، في حين أنّ حكمة الله تعمل بمنطق مصلحة الآخر، منطق المحبّة، الآخر أوّلاً، وتعمل بحسب روح الله الذي يسبر عمق أعماق النفس ويكشف لها حقيقة الأشياء.
حكمة البشر تقول: كلّ ما تملكه هو لك، وأنت حرّ التصرّف به، ولا أحد سيحاسبك على طريقة صرفك للمال اللهمّ إلاّ إذا استعملته للأذى. إنّه مالك ويحقّ لك أن تستمتع به، ويحسن أن تساعد به آخرين.
حكمة الله تقول: الملك لله، وكلّ ما تملكه ليس لك، بل هو لله، وأنت وكيل على هذا المال، وذات يومٍ سيحاسبك الله على طريقة ممارستك لهذه الوكالة. وبما أنّك وكيل، عليك أن تدير الوكالة بحسب ما يريده سيّدك صاحب المال لا بحسب ما تريده أنت. وسيّدك يريدك أن تشارك الآخرين بما لديك.
نجد صراع الحكمتَين هذا في قصّة الشابّ الغنيّ. كثيرون يقرأون إنجيل مرقس (10/ 17 -30) ويحتجّون: هذا غير منطقيّ أن يتخلّى الإنسان عن كلّ ماله ويوزّعه على الفقراء! أجل، هذا غير منطقيّ بحسب حكمة البشر. وهل الأمر منطقيّ أن يموت الإنسان ولا يستطيع أن يأخذ معه أيّ شيء ممّا يمتلكه؟ لمَ نقبل بأن يجرّدنا الموت من كلّ شيء، ولا نقبل بأن نلبّي دعوة سيّد الحياة إلى هذا التجرّد؟ اللامنطقيّ هو أن نطلب نَيل الحياة الأبديّة بدون أن يكون لدينا أيّ استعدادٍ لأن ندفع ثمنها. وثمن الحياة الأبديّة هو التخلّي عن التعلّقات الدنيويّة، التي تقودنا إلى الموت، والتعلّق بالربّ إله الحياة الأوحد.
يقول صاحب الحكمة إنّه أحبّ الحكمة «فوقَ العافِيةِ والجَمال» (حكمة 7/ 7 -11). ها هو يفضّل الحكمة على الصحّة وعلى التباهي في المجتمع. والحكمة ليست أفكارًا، بل مَن يقرأ سفر الحكمة يكتشف أنّها شخص: تعظ، تقف على ملتقى الطرقات، توبّخ، تدعو الناس لأن يسمعوا لها. وهذا الشخص هو المسيح، كلمة الله وحكمته. لقد أتى إلى العالم ليعلن حكمة الله، ولكنّ العالم رفضها، وأحد نماذج الرفض هو الشابّ الغنيّ الذي تقرأ لنا الكنيسة اليوم قصّته.
المسيح حكمة الله. إنّه الإله الذي يقبل أن يهينه الإنسان التافه الفاني، لأنّه يحبّ هذا الإنسان، ويقبل بأن يصلبه الخطأة الآثمون. فالصليب حكمة الله، هو في نظر الناس عار وجنون. أمام الصليب نستطيع أن نتأمّل صراع حكمة الله وحكمة البشر، وكيف تلجأ حكمة البشر إلى حكمتها لتقضي على حكمة الله، فتقضي بالأداة نفسها على ذاتها.
الأب سامي حلاق اليسوعي.