مراكز الإصغاء مراكز رجاء
تعمل راعويّة الزواج والعائلة، على إنشاء مراكز إصغاء، من أجل وساطة ومصالحة ومرافقة الأزواج. وكما ذكرنا سابقًا، ضرورة وأهميّة الإصغاء والمرافقة والمتابعة للمتزوِّجين، حتّى لو لم يكن هناك حالات من الخلاف والتشرذم، بل من أجل الوقاية والمتابعة وتدعيم الحياة المشتركة.
نعم، إنّ مكاتب الإصغاء، تهدف إلى الإصغاء إلى مشاكل الأزواج والعائلات ومصالحتهم، من خلال أخصّائيّين مؤهّلين، لتقديم الإرشادات النفسيّة والعلائقيّة والروحيّة وحتّى القانونيّة. تُسهم الوساطة الرّاعويّة من خلال مراكز الإصغاء إلى التوصّل في بعض الأحيان، مع العائلات المتخاصمة، إلى اتّفاق فيما بينهم، كالنفقة والحراسة، والحضانة والمشاهدة والاصطحاب. من هنا، تعمل الوساطة الراعويّة، على حسن “إدارة النزاع”، في حال فشل المصالحة، قبل إحالة الدعوى إلى المحكمة الروحيّة، عبر توقيع اتّفاق خطّي بين الزوجين، وضمّه إلى ملف الدّعوى. كما تعمل الوساطة الراعويّة، على متابعة الزوجين المتخاصمين، خلال الدعوى، وبعد الحكم.
تؤكّد تلك المعطيات، أهميّة وضرورة وجود مراكز الإصغاء، من خلال تفرّغ متخصّصين محترفين، ذوي خبرة، يتمتّعون بكفاءات علميّة، ومؤهّلات إنسانيّة وأخلاقيّة، وبروحانيّة مسيحيّة، تؤمن بقدسيّة العائلة، وبسرّ الزواج المقدّس، وتعاليم الكنيسة. ومن أحد أدوار مراكز الإصغاء، مرافقة العائلات، خاصّةً في السنوات الأولى، من الحياة الزوجيّة، وحثّ الزوجين على ضرورة اعتماد فنّ الاتّصال والتواصل، والحوار وحلّ أيّ خلاف بينهما.
تتواصل مراكز الإصغاء، من خلال الوساطة الراعويّة، مع المحاكم الروحيّة، من أجل تنسيق ومتابعة عمل نجاح الوساطة والمصالحة. من هنا، ضرورة التواصل مع الأسقف وكاهن الرعيّة، لإنجاح المهمّة الصعبة؛ ألا وهي إعادة السَّلام، والطمأنينة، إلى حياة المتخاصمين. تتبنّى عادةً، مراكز الإصغاء مقاربة شاملة لحياة الزوجين، التي تساعد على حلّ مشاكلهما العائليّة كافة. كما تستعين بالجماعات العائليّة الرّعويَّة، المتواجدة في الرعايا، التي تُسهم في الوساطة والمصالحة، والمواكبة الرُّوحيّة والعائليّة وحتّى الاجتماعيّة.
يدعو البابا فرنسيس، إلى المحافظة على العائلة، لأنّها خير للمجتمع “إنّ خير العائلات هو مصيريّ لمستقبل العائلة والعالم والكنيسة”[1]. ويتابع قوله “فالعائلة هي خير لا يستطيع المجتمع أن يتخطّاه، إنّما بحاجة إلى أن يُحافظ عليها”[2].
يترافق هذا الكلام، في خانة القانون الكنسيّ، حيث يحضّ الرّعاة، على المحافظة والسَّهر على العائلات، لأنّها طريق الكنيسة، والمدعوّة للقداسة والحبّ، وإلى حبٍّ حرّ من دون حواجز ولا حدود، يبرهَن عنه بتقديم الذات حتّى الموت على الصّليب. يقول القانون الكنسيّ بهذا الخصوص “بعد الاحتفال بالزواج، على رعاة النفوس أن يمدّوا المتزوّجين بعونهم…”[3].
من هنا، لا بدّ من المتابعة الراعويّة، ما بعد الاحتفال بسرّ الزواج، من أجل تذكير المتزّوجين، بضرورة المحافظة على قدسيّة الزواج، ونجاحه على جميع الصُّعُد، باستعمال الوسائل الضروريّة، والطرق العلميّة والعمليّة، من أجل تخطّي الحواجز. لا يقف مشروع الزواج ومسيرته، ولا ينتهي، عند مجرّد الاحتفال به كسرّ، وإنّما يستمرّ حتّى الموت.
تحاول الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أن تكتسب، وتختبر “فنّ الإصغاء” كما أن تُسهم في “فرح المصالحة”. تستعمل الوساطة الرّاعويّة، أساليب وتقنيات حديثة ومتطوّرة، في مجال علم النفس، والاجتماع والاتّصال والحوار، ممّا يعزّز فرص النجاح، في التوصّل إلى حلّ الخلافات، وعيش “فرح المصالحة”، المبنيّة على اتّفاقات شفويّة ومكتوبة. يتطلّب الوصول إلى نجاحات ملموسة وواقعيّة، تطبيق بعض المبادئ العلميّة والعمليّة، في فنّ التفاوض، والالتزام بالنصائح وتطبيق الاتّفاقات، كما المتابعة الحثيثة والجدّية، من أجل إنجاح عمل الوساطة الراعويّة، بتحقيق الأهداف المرجوّة.
تستعمل الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، جميع الإمكانات والوسائل، من أجل تصحيح الخلل وتنقيته من الشوائب، من خلال الحوار المباشر مع المتخاصمين: عرض المشكلة من قبل الزوج والزوجة كلّ واحدٍ على انفراد، ومن ثمّ وجهًا لوجه لسماع الاعتراضات والادّعاءات والرأي الآخر المختلف. ومن ثمّ يتحوّل الأشخاص نحو الأخصّائيّين لمتابعة مسيرة التفاوض، من أجل الوصول إلى تسوية، أو إلى مصالحة، تنبع من الغفران والتوبة والندامة.
تتمّ هذه العمليّة، من خلال الرّعاة والأهل والأصدقاء ولا سيّما الأخصّائيّين (ضرورة الحياديّة، حفظ السرّ، التحلّي بالإصغاء وسماع الشكاوى، الإيحاء بالثقة، المهنيّة العالية، التأكّد من حريّة الأشخاص الداخليّة).
تضع الوساطة الراعويّة فترة من الزمن، يتخلّلها الحوار المباشر، والدّعوة إلى الصَّلاة، والرُّجوع إلى الذات وإلى الله، كما إلى القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، مع فحص ضمير يطال مسيرة حياة الثنائيّ. ويُستحسن العودة إلى دراسة وقراءة ماضي الثنائيّ وخبراته وخياراته للزواج ومفهومه للحبّ وللحياة الثنائيّة والعائليّة. بالتأكيد، تحافظ الوساطة الراعويّة على السريّة التامة لمسيرة المصالحة.
تتوقّف في بعض الأحيان مسيرة المصالحة في نصف الطريق، وذلك لأسباب عدّة. يمكننا القول، أنّ الوساطة الراعويّة في حلّ الخلافات الزوجيّة، تخلق مساحة جديدة من الحوار والإصغاء، ممّا يساعد الأزواج على التعبير والإعلان عن مشاكلهم وصعوباتهم، وشكواهم وإدّعائهم.
كما تمنح الفرصة للأزواج، بالبحث من خلال أنفسهم، وبفضل الحوار، عن مخارج واقعيّة وعلميّة وملموسة، لحالاتهم المتعثّرة والعصبيّة والمؤذية لهم، ولأفراد العائلة. تقدّم الوساطة الراعويّة للعائلات المجروحة دعمّا معنويًّا ونفسيًّا، من أجل تخطّي أغلب أزماتهم، وحملهم على المصالحة، وتجديد “العهد”، بالاستفادة من طرق جديدة وأساليب منوّعة، من أجل تحقيق غاية الزواج، والحياة العائليّة، ألا وهي السّعادة “المُمكنة والمعقولة”.
كما تعلّمهم الاتّكال على قيمة وضرورة وأهميّة، التواصل والحوار، فيما بينهم. كما تدفعهم، في حال فشل المصالحة، إلى التمسّك بدورهم كأهل ومربّين، من خلال التواصل فيما بينهم. كما تحذّرهم من إدخال الأولاد، في صراعاتهم العقيمة، بالطلب منهم حمايتهم، من مفاعيل خلافاتهم. كما تذكّرهم بحقوق الأولاد، بخلق أجواء مريحة، وتربية سليمة ومتابعة ومرافقة.
بالرّغم من الصعوبات والمشاكل والخلافات الزوجيّة الحادّة، التي تطال عددًا من المتزوّجين، يبقى الأمل حالة نعوّل عليها، كما الرّجاء نعيشه، لمساعدة الأزواج المتعثّرين، على أمل أن يجدوا الحلول لأزماتهم.
بالرّغم من كلّ شيء، يبقى الأمل في تثبّت، أنّ الحبّ ممكن بين الرّجل والمرأة، ونجاحه ضمن الحياة الزوجيّة والعائليّة، واقع لا بدّ من أن يحقّق الفرح والسّعادة، والاستقرار والأمانة، إذا تمّ التحضير والاستعداد له، وامتلاك كلّ المؤهِّلات والمقدّرات، واستعمال الطرق الصّحيحة، وتطبيق المفاهيم والمبادئ بطريقة صحيحة، مبنيّة على معطيات علميّة ووسائل عمليّة، وأخذ القرار “بالبقاء معًا”، بالرّغم من كلّ شيء.
الأب نجيب بعقليني
[1] فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ”، عدد 31.
[2] المرجع السابق، عدد 44.
[3] مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، قانون 873، بند 4.