"أسرعَ الرعاةُ إلى بيتَ لحم، فوجدوا مريم ويوسف والطفل يسوع مضّجعًا في مذود" (لو2: 16)
إلى إخواننا السّادة المطارنة،
والرؤساء العامّين والرئيسات العامّات
والكهنة والشمامسة الرهبان والراهبات،
وسائر أبناء كنيستنا المارونية وبناتها
في لبنان والمشرق وبلدان الانتشار الأحباء
السلام والبركة الرسولية
1. حالما أشرقَ نورُ مجدِ الله حول رُعاة بيتَ لحم، في ظلمة اللَّيل، وبشّرَهم بالفرح، الذي سيعمُّ العالم أجمع، "أنّ اليوم وُلِدَ المُخلّص، وهو المسيحُ الرّبّ، المُقمَّط والمضّجع في مذود"، أسرعَ الرّعاة ليرَوا هذه الكلمة، "فوجدوا مريم ويوسف والطّفل مضّجعًا في مذود". وكان أوّل إعلان لإنجيل العائلة.
أيقونة العائلة
إنّها العائلة المقدّسة، أيقونة كلّ عائلة: هو كلمة الله يتجسّد في عائلة بشريّة. هيّأَ لذاته أمًّا عذراء بشخصِ مريم، وُلِدَ منها بقوّة الرّوح القدُس واغتذى من حبّها وحنانها، فكانتْ أطهر الخلق أجمع وأقدسه؛ واختارَ أبًا بتولًا هو يوسُف من النّاصرة، تعهّدَ حياته البشريّة وتربيته وإعالته، فكانَ لهُ ولأمِّه، أمامَ الشريعة والمجتمع، الأب والزّوج الشّرعي. إنّهُ حارسُ الأغلَيَين: يسوع المخلِّص وفادي الإنسان، ومريم أمّه وأمّ البشريّة المفتداة.
2. يُسعدُني والأسرة البطريركيّة أن أُعربَ للسّادة مطارنة الأبرشيّات وقدس الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، وأبناء وبنات أبرشيّاتهم ورهبانيّاتهم، في لبنان والمشرق وبلدان الإنتشار، عن أخلص التهاني بميلاد ربِّنا ومخلّصنا يسوع المسيح، وبالسّنة الجديدة 2017، راجينَ لهم جميعًا فيضَ الخير والنّعم، ولبلدان مشرقِنا التي تُعاني من ويلات الحروب والنّزاعات، السّلام والاستقرار.
صلاة ودعاء
3. أودُّ في هذه الرسالة الميلاديّة أن أرفعَ معكم صلاة الشّكر لله على السّنة 2016 التي وصلَتْ إلى غروبِها، وقد أتاح بنعمته للكتَل السياسيّة والنيابيّة عندنا أن تتوافق على انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة بشخصِ العماد ميشال عون، وعلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة الشيخ سعد الدين الحريري. إنّنا إذ نهنِّئهم، نُهنّئ أيضًا اللّبنانيِّين مقيمين ومنتشرين، وندعو لهذا العهد الجديد بالنّجاح في مواجهة التحدّيات الكبيرة والمتفاقمة، وفي طليعتها استكمال الوحدة والمصالحة الوطنيّة على المستوى السياسي، وتسريع صدور قانون انتخابات يضمن التوازن في التمثيل والإتيان بنخب جديدة، ومحاربة الفساد في المؤسّسات العامّة، والمباشرة في معالجة الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة والإجتماعيّة، رحمةً بالمواطنين الذين يتآكلهم الفقر، وبالشّبيبة الباحثة عن مستقبلها وترجوه داخل الوطن.
4. كلّ هذه التّحديات، بالإضافة إلى غرق المجتمع والبلاد بمليونَي نازح ولاجئ ينتزعون لقمةَ العيش من فم اللّبنانيِّين الذين أصبحوا في ثلثهم تحت مستوى الفقر، ويهدّدون بالخطر الأمن الداخلي، إنّما تُصيبُ العائلة الصّغيرة والوطنيّة. وكم يؤلمُنا أن تأتي ذكرى الميلاد المجيد، ومعظم العائلات عندنا في حالة معاناة إقتصاديّة ومعيشية ومعنوية، وفي حالة تبدّد بسبب هجرة الأولاد والأحفاد عن والديهم والأجداد، وفي حالة تفكّك الرّباط الزّوجي بداعي جفاف الحبّ والأمانة، واللّجوء المفرط إلى الطّلاق وإبطال الزّواج، وفي حالة الضّرر النفسي والعاطفي الذي يُصيبُ الاولاد سواءَ كانوا قاصرينَ أم راشدين.
5. إنّنا نحملُ في صلاتنا العائلات المنكوبة من جرّاء الحروب وممارسات العنف والإرهاب في مشرقنا وبلدان أخرى، وكان آخرها في القاهرة والكرك وبرلين. ونعلن قربنا من كلّ الذين فقدوا دفء العائلة بسبب حاجاتهم الماديّة وقساوة الدهر عليهم وفقدانهم مشاعر الحبّ والحنان. ونُعربُ عن شكرنا للمؤسّسات والهيئات التي تُعنى بالتّعويض عن هذا الدِّفء المفقود. ولكن علينا أن نضاعف جهودنا في توجيه عملنا الرّاعوي، ومؤسّساتنا التّربويّة والإستشفائيّة والإجتماعيّة، إلى حماية العائلة وتعزيزها ومساعدتها. فإنّ "خيرها مصيري بالنّسبة إلى مستقبل العالم والكنيسة عامّة، كما وإلى مجتمعنا ووطننا. فالعائلة هي الخليّة الحيّة للمجتمع، والمدرسة الطبيعيّة الأولى المربِّية على القِيَم العاطفيّة والأخلاقيّة والإجتماعيّة، والكنيسة المنزليّة ناقلة الإيمان ومعلِّمة الصّلاة.
إنّ الإرشاد الرسولي "فرح الحبّ"، الذي أصدره قداسة البابا فرنسيس بتاريخ 19 اذار 2016، في أعقاب جمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة بالعائلة، هو لنا خيرُ دليل في عملنا الراعوي والتربوي والاجتماعي المشترك.
في خدمة العائلة
6. بميلاده في عائلة بشريّة، أعاد ابن الله الزواج والعائلة إلى حالتهما الأصليّة، على صورة الثالوث الأقدس الذي منه ينبع كلّ حبّ حقيقي، طاهر ومعطاء. وأعلن للعالم إنجيل العائلة الذي تحمل الكنيسة بشراه في أعمالها ونشاطاتها ومؤسّساتها. لهذا إنجيل العائلة دعانا المسيح في الحياة المكرَّسة والكهنوت، ونذرنا نفوسنا، فباتت الأبرشيّات والرهبانيّات بهيكليّاتها ومؤسّساتها علامة رجاء لكلِّ عائلة، تحمل صدى البشرى الأولى التي اجتذبت رعاة بيت لحم إلى المذود حيث وجدوا دفء العائلة الجديدة: مريم ويوسف والطفل، وامتلأوا فرحًا، وعادوا يسبِّحون الله ويهلِّلون. فلتكن مطرانياتُنا ورعايانا وأديارنا ومؤسّساتنا "المذودَ الجديد"، حيث تجد العائلة ذاتها وفرحها، وترى تجلّيات حبّ الله.
7. يذكِّرنا قداسة البابا فرنسيس قول بولس الرسول "أنّ الزواج والعائلة هبة من الله" (راجع 1كور7: 7)، تجب العناية بها والمحافظة عليها. ويعطينا مثال المسيح كنموذج لنا: فقد بدأ حياته العلنيّة في عرس قانا حيث أبهج العروسَين والحاضرين بآية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة (يو2: 1-16)، وشارك لحظات صداقة مع لعازر وأختَيه (لو10: 38)، وشفاء مع عائلة بطرس (متى 8: 14)، وسمع بكاء أهل على أولادهم فشفاهم وعزّاهم وأعاد إليهم الحياة (مر5: 41؛ لو7: 14-15)، وأشبع آلاف الجماهير من خمسة أرغفة وسمكتَين (يو6: 1-16)، وهدى المرأة السامرية بنور الحقيقة (يو4: 1-30)، وغمر برحمته الغافرة المرأة الزانية (يو8: 1-11). وهكذا أثار تجسّد الكلمة الإلهي في عائلة بشرية وجدان تاريخ العالم بأسره (فرح الحبّ، 63-65).
إنجيل العائلة لا يقتصر بشراه على عائلتنا الشخصيّة، بل يشمل كل عائلة بشرية، أيًّا كان دينها ولونها وعرقها وثقافتها. الكنيسة، بحكم أمومتها، تشمل كلّ العائلات.
مناشدة ومطالب
9. وإنّنا معكم نناشد الدولة، التي هي بمثابة أمّ لجميع المواطنين، أن تحمل همَّ كلّ عائلة لبنانيّة، وتعيد للعمل السياسي أصالته، فيلتزم توفير الخير العام، الذي منه خير كلّ واحد وخير الجميع، في التشريع والإجراء، في الإدارة والإنماء، في الاقتصاد بكلّ قطاعاته، في المعيشة والتربية وفرص العمل.
ونطالب الدولة مساعدة عائلاتنا اللبنانيّة في مواجهة حاجاتها لتأمين العلم والاستشفاء والعناية لأفرادها. ونطالبها الإيفاء بمتوجِّباتها المالية تجاه مؤسّسات الكنيسة ومثيلاتها التي تعنى بخدمة العائلة من مستشفيات ومدارس مجّانية ومراكز لمسنّين ويتامى ومعوَّقين وذوي احتياجات خاصّة. فالدولة هي المسؤولة أصلًا عن إقامة مثل هذه المؤسّسات، لقاء ما يؤدّي لها المواطنون من ضرائب ورسومات متوجّبة.
10. ونناشد معكم الأسرتَين الدوليّة والعربيّة، وضع حدّ للإرهاب والتطرّف، وللحروب والنزاعات الجارية في بلدان الشّرق الأوسط، التي تفتك بالعائلة قتلًا وتهجيرًا وشرذمة وإفقارًا، والتي تشرِّد عائلاتنا المشرقيّة على دروب العالم، فتقف بأفرادها كبارًا وصغارًا، مسنِّين وأطفالًا، على بوابات حدود الدول مخذولين ومحرومين من حقوقهم الأساسية وكراماتهم.
ونطالب منظَّمة الأمم المتّحدة ومجلس الأمن العمل الجدِّي على إيجاد حلول سياسيّة تهدف إلى إحلال سلام عادل وشامل ودائم، وإلى إعادة جميع اللاجئين والنازحين والمخطوفين إلى أوطانهم وممتلكاتهم وحماية حقوقهم وكرامتهم كمواطنين.
11. إذا تمّ كلّ ذلك، يحقّ لنا وللعالم أن يبتهج بعيد ميلاد المسيح فادي العائلة، وبعيد رأس السنة الجديدة 2017 التي نرجوها سنة سلام واستقرار لكلّ عائلة وللجميع، فنهتف:
وُلد المسيح! هللويا!
بكركي، في 24 كانون الأول 2016.
+ الكردينال بشاره بطرس الراعي
بطريرك انطاكيه وسائر المشرق