في الأحد الماضي شفى الربّ يسوع مقعد كفرناحوم، وفتح أمامه دروب الحياة. واليوم بشفاء الأعمى (مرقس 10: 46-52) ينير سيره في هذه الدروب. والإثنان وجدا سعادة الحياة. وهكذا تحقّق قول المسيح عن نفسه أنّه "الطريق والحق والحياة" (يو14: 6).
إنّ العمى الحقيقي، ليس عمى العيون، بل عمى البصيرة، عمى العقول والقلوب الذي يضلّ الطريق، ويزيغ عن الحقّ، ويخسر الحياة.
نأمل أن نكون في هذا الصيام الكبير قد وجدنا الطريق المستقيم على نور يسوع المسيح، وبذلك نستعدّ لاستقباله في حياتنا وعائلاتنا ومجتمعنا ووطننا، كما استقبلته الجماهير في أورشليم: "هوشعنا، يا ربّ خلِّصْ، مباركٌ الآتي باسم الربّ" (يو12: 13).
1. الربّ يسوع، المُرسَل من الآب يواصل تجواله الرسولي، يبشّر بكلمة الله ويشفي المرضى، وها هو يصل إلى أريحا. وفيما كان خارجًا منها ومعه جمع غفير كان لقاؤه مع الأعمى طيما ابن طيما. يذكِّر الربّ يسوع رعاة الكنيسة، الأساقفة والكهنة، بواجبهم الرسولي، في أبرشيّاتهم ورعاياهم، وفي بلدان الانتشار.
فميزة الكنيسة أنّها رسوليّة، إلى جانب كونها واحدة وجامعة. تمكّن يسوع، بتجواله الرسولي في المدن والقرى، من تفقُّد الجميع والوصول إلى الجميع. ولذلك كان دائمًا يتبعه جمع غفير، وهو يلقي عليه كلمة الله، ويشفي من كلّ علّة ومرض. إنّه الرسول المحبّ والرحوم.
2. جمعٌ غفير وإنسانٌ أعمى مطروح إلى جانب الطريق لا يبالي به أحد. ولم يفكّر به أحد ليحمله إلى يسوع فيشفيه. إنّه يمثّل كلّ إنسان يعيش في عزلة إما بسبب المرض الذي يقعده، أو بسبب عدم انسجامه مع أهل بيته ومجتمعه، أو بسبب الروح الاستهلاكيّة التي جعلت الناس يعيشون كلّ واحد لنفسه ومصلحته وراحته.
لكنّ هذا الأعمى الّذي كان مهمَلاً وبدون قيمة، عندما التقى يسوع وشفي أصبح معروفًا. وهو الوحيد الّذي يُذكر اسمه واسم أبيه: طيما ان طيما، بين جميع الّذين شفاهم، للدلالة أنّ لا أحد منسيٌ عند الله. بهذه الميزة يقوم رعاة الكنيسة بخدمتهم ورسالتهم: " أعرف خرافي وخرافي تعرفني" (يو 10: 14).
3. هذا الأعمى برطيما يصفه مرقس الإنجيلي بثلاثة: "هو شحّاذ أعمى، على جانب الطريق" (الآية 46).
أ. إنّه أوّلًا شحّاذ. حالة الفقر هي جرح لإنسانيّة الشخص. فهو غير قادر على تأمين حاجيّاته الأساسيّة، حتّى حاجاته البيولوجيّة. وهو بذلك "بحاجة دائمة"، فيه جوع لكلّ شيء. يصارع الزمن في سباق ما بين الإستعطاء والجوع الناهش جوفَه الخاوي.
ذلّ وإذلال واستخفاف واستهزاء هي مفردات قاموسه. إنسان لا مستقبل له. أحلامه لقمة وخرقة ورشفة ماء. لم يبقَ من إنسانيّته إلا معدة تبغي شبعًا. "الشحّاذ" صفة فشل الإنسان في امتحان الحياة.
يعلّمنا النصّ أنّ الفقر هو حالة مضادة لإرادة الله على البشريّة. فالربّ يوم خلق الأرض، وضع فيها الرزق الكافي للجميع. هذا هو معنى أنّ الله "رأى ذلك حسنًا" (تك 1). ويشدّد صاحب المزامير على هذه الحقيقة منشدًا كرم الربّ وقائلاً: "الذي يرزق كلّ ذي جسد طعامه" (مز 136: 25).
فمن لا يجد اليوم رزقه في الأرض فذلك عائد لأنّ أحدهم يسرق رزقه من أمامه ويستأثر به. المجتمع الجائر هو من يسيء معاملة العمّال والموظفين وهو من يضع نظمًا وقوانين غير منصفة، تكرّس التمايز الضخم بين الطبقات. ولذلك، يشير القديس باسيليوس الكبير في عدد من مواعظه بأنّ الغنيّ الذي يكدّس الثروات في خزائنه هو يمنعها عن أصحابها. يعلّمنا هذا القدّيس الكبير من آباء الكنيسة أنّ حصّة الإنسان، كلّ إنسان، من خيرات الأرض ضروريّة له ولعائلته من أجل حياة كريمة. أمّا ما يفيض خيرات فيضعها الله بين يديّ الغنيّ ليوصلها للمحتاج؛ فيكون الغنيّ بذلك رسول رحمة لله ومعاونًا له في توزيع الخيرات. ليصل به المقام إلى القول: إنّ كلّ لقمة يأكلها الإنسان بعد شبعه إنّما يسرقها من فم الفقير الجائع.
ب. وهو أعمى: يضيف العمى إلى القطيعة مع العالم قطيعة أخرى أخطر وأصعب وهي قطيعة مع الله بذاته. فالعمى، كما كلّ مرض بالنسبة لشعب الله المختار، اعتُبر قصاصًا إلهيًّا على خطيئة معيّنة. فالمريض إذًا خاطئ ومفصول بذات الفعل عن خالقه. لا صلاة تنفعه ولا دعاء، طالما هو خاطئ مريض.
نفهم مجدّدًا أنّ برتيماوس فقير حقًّا، لا عن تكاسل. فهو لا يقدر على فعل شيء تجاه مرضه الذي أعجزه. قد نتفهّم مّمن هو في حالة هذا الرجل أن ينهار تحت ثقل صليبه. لذلك نقف باحترام أمام إصراره على الحياة وبحثه عن مخرج من خلال شفاء يترجّاه من الربّ يسوع.
ج. وهو على جانب الطريق، إذ لا طريق له. أيّ طريق يسلك وبأيّ عيون يتوجّه أو إلى أين يذهب وإلى مَن؟ مهمّش منسيّ، لا يجرؤ على الدخول إلى ركب الحياة حتّى لا يدوسه الناس في تسارعهم في طريقهم. لا يلتفت إليه أحد إلاّ ليرمي في يده شيئًا من حسنة ويواصل فورًا مسيرته. يجبره العمى على الإنزواء عن كلّ أشكال الحياة. إنّه ميت إنسانيًّا واجتماعيًّا وروحيًّا.
4. مشكلة هذا الاعمى هي أنه ضحية الإهمال. لم يساعده أحد للوصول إلى يسوع لأنًه، بالنسبة للجميع، على الهامش. يحكم عليه المجتمع أنَه "غير منتج"؛ عالة عليه. الأفضل التخلّص منه. ولكن، مع يسوع، تنقلب الحسابات رأسًا على عقب. فمن كلّ الموجودين حول المعلّم لم يبقَ ذكر سوى لبرطيماوس. هو فعلاً نعمة لكلّ من رآه وتعرّف من خلال شفائه على الربّ والمخلّص. هو نعمة لكلّ من يقرأ الإنجيل ويتأمّل بما جرى معه. هو نعمة لنا، نحن المجتمعين اليوم، لنسمع تنشئةً تتكلّم عنه.
يدعونا يسوع أن ننظر دومًا بعينيه هو إلى الأشخاص وإلى الأمور. وكم علينا فعل ذلك اليوم وكلّ يوم في تعاطينا مع المعوّقين. كثيرًا ما نصنّفهم كأشخاص أدنى، نهمّشهم، نقفل في وجههم السبل. أمّا يسوع فيذكّرنا بواجبنا تجاههم، أن نكون يد العون الممدودة لهم. أن نعوّض أيديهم المشلولة بأيدينا التي نالت قوّةً بنعمة الله، وأن نعوّض بصرهم الكفيف بأعيننا، والأهمّ أن نعوّض انكسار قلوبهم بقلوب مسيحيّة سخيّة بالمحبّة والتفهّم. وعلينا كمسيحيّين أن نطالب الدولة بالقيام بدورها تجاه هذه الشريحة من المجتمع. ينقصنا التشريع العادل لهم وينقصنا أكثر تطبيق ما سُنً سابقًا من تدابير في مصلحتهم.
5. برطيما الأعمى، الميت إنسانيًّا واجتماعيًّا وروحيًّا، دبّت فيه قوّة القيامة المزروعة في كلّ إنسان، عند سماعه بمرور "يسوع الناصري". لقد سمع في السابق عنه أنّه الشافي. فتحرّكت فيه بصيرته الداخليّة على ضوء إيمان أشعّ في قلبه، ونادى يسوع باسمه البيبلي المسيحاني، وهو اسم لم يسمعه يسوع من أحد قبله، إذ ناداه: "يا ابن داود ارحمني" (الآية 47).
من أين عرف الأعمى مسيحانيّة يسوع إن لم يبشّره أحد؟ من المعلوم أنّ الشعب كلّه كان ينتظر المخلّص، وكان في شوق إلى لقياه. ولكنّ الجدل كان على أشدّه في شأن يسوع. فكثير من اليهود، على الرغم من أنّهم سمعوا البشارة ورأوا المعجزات وأكلوا من الخبزات التي كثّرها يسوع، صاحوا ليلة الخميس بأعلى أصواتهم "إصلبه". كيف وصل برطيماوس الشحّاذ الأعمى إلى أيمان لم يبشّره به أحد؟
رأينا أنّ صلة الوصل الوحيدة بين الأعمى ويسوع هي ما سمعه عن أعماله الأرضيّة. فلا بدّ أن من خلالها، ومن خلال ما تقوله الكتب المقدّسة عن المسيح، استنتج الحقيقة: إنّه ابن داود المنتظر. ولكن من أين لهذا المسكين بصيرة شحّت لدى السواد الأعظم؟ معرفة الإلهيّات لا تأتي إلاّ من تأمّل طويل وعزلة وصلاة، على ما يقوله لوقا عن مريم أنّها: "كانت تحفظ هذا كلّه وتتأمله في قلبها" (لو 2: 19). ومن أكثر من برطيماوس عزلة في دنياه وهو الأعمى الملقى على قارعة الطريق، يشغل أيامه الطوال بالانتظار والأمل؛ انتظار محسن، يأمل منه بالبخس من الخيرات، أو انتظار مخلّص ينشله من مرارته للأبد. هذا الانتظار، يلونّه الأمل، امتلأ يومًا بعد يوم بخبر يسوع الناصريّ. ولشدّة اشتياقه له، اشتياق الأعمى للبصر، أدرك أنّه هو.
آفات العمى والفقر والتهميش هي التي زرعت الإيمان النبويّ في قلب هذا المسكين. كوّنت هذه الصلبان الثلاثة قبرًا له، نال فيه نعمة القيامة. وهكذا انقلبت الصورة القديمة: المرض الذي كان قطيعة مع الله، لأنّه ثمرة الخطيئة، أضحى اليوم، لمن يحمله بصبر وأناة، سبب حياة، عزّت لدى الأصحّاء. هذه الإعاقة، بدل أن تُبعد برطيماوس عن خالقه، كانت هي الباب، معموديّة الألم، يدخل بها إلى حظيرة راعي الخراف، ليصير أقرب إلى قلب المعلّم من ذلك الجمع الغفير. إنّها قوّة يسوع العظمى، تقلب الموت قيامة. ولعنة الصليب تضحي، بقوّة المصلوب، بركةً لا محدودة.
6. لكن الجمع الغفير الذي لم يعرف حقيقة يسوع، وكان هو الأعمى الحقيقي، أعمى البصيرة، انتهروه ليسكت. أما هو فكان يزداد صراخًا: "يا ابن داود ارحمني" (الآية 48). إنّ صراخه، الصادر من قلبه المؤمن، وقع في صميم قلب يسوع، بالرغم من ضجيج الجمع الكبير من حوله. صرخة مسّت مشاعره وحنانه، وحرّكت رحمته، "فوقف يسوع وقال: أدعوه" (الآية 49). لماذا لم ينادِه يسوع بنفسه؟ لماذا طلب منهم أن يفعلوا ذلك؟ هذا الرجل مهمّش من أهل أريحا ومتروك على قارعة الطريق، وهذه مشكلته الأساسيّة. دعونا نتصوّر المشهد: يسوع متوجّه نحو أورشليم والناس يتبعونه وجميع الأنظار متّجهة صوبه. برطيماوس هو كليًّا خارج دائرة الأنظار.
يتوقّف يسوع فيقف الجميع. وها هي الكلمة السحريّة التي ستقلب كلّ الموازين: "نادوه". يستدير الجميع. الآن، الأنظار كلّها إلى برطيماوس. تتحرّك الأقدام فاتحةً طريقًا تنطلق من يسوع صوب الأعمى. من كان على قارعة الطريق هو الآن الطريق والهدف. من كان مهمّشًا صار موضع اهتمام الجميع. من كان عرضةً للزجر والإسكات والانتقاد صار الآن موضع التقدير والتشجيع: "تشجّع، قم، إنّه يناديك".
كلمتهم له "قم"، قدّ تدلّ فقط على مجرّد الوقوف، "ولكنّ القارئ المنتبه يعلم أنّ هذا الفعل، يُستعمل بخاصّة للتعبير عن القيامة من بين الأموات". وهكذا، هذه الجماعة نفسها، التي كانت منذ لحظات تدفن برطيماوس بصراخها لإسكاته، ها هي الآن تتحوّل إلى "عامل قيامة"، فتدعو الأعمى ليخرج من قبره.
"نادوه"، كلمة تشفي مدينة. إنّه الشفاء الحقيقيّ والدائم لكلّ أعمى سيوجد يومًا في أريحا وفي العالم بأسره، لكلّ متألّم ولكلّ مظلوم. بهذا الأعمى المسكين، شفى يسوع شعب أريحا وشعوب العالم بانفتاح قلبها لتقبّل نعمة الكلمة.
7. "طرح الأعمى رداءه ووثب وجاء إلى يسوع" (الآية 50). ها هو الجسد بكليّته الآن يتحرّك ليجاوب على دعوة يسوع له بأن يأتي إليه. نظرة يسوع كسرت حاجز العمى وحاجز الطريق. لم يعد برطيماوس أعمى إذ رأى يسوع من خلال ندائه له. رأى أنّ أمله يتحقّق.
ألمهمّ أنّه "رأى" شيئًا ما، ولو كان مجرّد أمل. ولم يعد بلا طريق؛ بل أصبح يسوع هو طريقه. ترك قارعة الطريق وتوجّه إلى الوسط، نحو المحور، حيث يقف المعلّم. وأصبح وإيّاه محطّ أنظار الجميع. ولم يعد ذلك المهمّش المنسيّ، بلّ صار موضع تهنئة الناس، وموضع غيرتهم: "تشجّع وقم! ها هو يناديك!". "يناديك أنت دون سواك. فيلقي المسكين عن كاهله كلّ ما يمكن أن يعيق وثبته. يلقي رداءه الوحيد. يخبرنا سفر تثنية الإشتراع أنّ رداء الفقير هو بيته ولا يملك سواه. خاطر الأعمى بكلّ ما له حتّى يلتقي يسوع. إنّه إيمان الشهداء الذين تحدّوا كلّ قوّات الأرض من أجل المسيح.
هذا ما يريده يسوع منّا جميعًا وعلى وجه الخصوص من شبابنا. الحياة لا تُعطى للكسالى والمتخاذلين والمتردّدين؛ وطبعًا ليست للمتهوّرين، بل هي للشجعان. القداسة هي أيضًا أن نكون مقدامين في حياتنا. فالحياة هي مشروع الله الأوّل: "في البدء خلق الله السماء والأرض" (تك 1: 1). لذلك، نجاح الإنسان في حياته هو التحقيق الأوّل والأساسيّ لإرادة الله عليه.
8. عجيب سؤال يسوع لأعمى يريد أن يبصر: "ماذا تريد أن أصنع لك؟" (الآية 51). عندما يقرّر أحدنا الإحسان بشيء ما على فقير، يُخرج من جيبه ما تيسّر، يضعه في يد الفقير ويتابع طريقه، من دون كلام. لو أنّ يسوع شفى الأعمى من دون أن يكلّمه لبقي طوال أيّامه شحّاذًا. يكسر يسوع هذا الحاجز بكلمة: "ماذا تريد؟"، بمعنى أنّك "لست شحّاذًا بالنسبة إليّ، بل أنت أخ، تطلب فتجد". بهذه الكلمات البسيطة، يرفعه يسوع إلى مستوى الندّ، فيشفيه نهائيًّا من أيّ خطر عودة إلى حالة الشحّاذ.
هذا السؤال عينه تطرحه الأم على ابنها الرضيع، عندما يبكي: تأتيه بالطعام قائلةً: "ليش عم تبكي، بدك تاكل؟ جوعان حبيبي؟" أسئلة لا تنتظر جوابًا، لأنّ الأمً تعرف طبعًا أنًه جائع، وهو أيضًا لا يستطيع بعد الكلام. هدف أسئلة الأمّ هو إظهار الحنان وبناء جسور التواصل مع الرضيع. يسوع يعامل برطيماوس، كما يعامل كلّ واحد منّا، كالأم، ساكبًا علينا كلّ حنان قلبه القدّوس، عندما يرانا في حاجة.
9. كلمتان قالهما يسوع للأعمى: "إذهب إيمانك خلّصك". "وللوقت عاد بصره، وراح يتبع يسوع في الطّريق" (الآية 52). إيمانه ظهر في مناداته بإلحاح "يابن داود ارحمني"، وفي جوابه على سؤال يسوع: "ماذا تريد؟" إذ لم يطلب حَسَنة بل "أن يُبصر". أمّا كلمة "اذهب" الّتي تعني دعوة إلى الإنطلاق لتحقيق أحلامه في أريحا، كانت عنده خيارًا للسّير وراء يسوع، لاتّباعه. ثمّ في ضوء هذا الاتّباع يقرّر نوعيّة حياته الجديدة. هذا تعنيه في الإنجيل كلمة "اتبعني" الّتي كان يردّدها يسوع. ومن بينها: "من لا يحمل صليبه ويتبعني، لا يستحقّني. من حفظ حياته يخسرها، ومن خسر حياته من أجلي يجدها" (متّى 10: 38-39).
* * *
ثانيًا، الإرشاد الرّسولي: فرح الحبّ
ننقل اليوم الصّفة التّاسعة من الحب الزّوجي، المأخوذ من نشيد المحبّة للقدّيس بولس الرّسول (1كور 13: 4-7)، كما يشرحها البابا فرنسيس في إرشاده الرّسولي: "فرح الحبّ" (الفقرات 105-108). هذه الصّفة هي الصّفح الّذي "لا يبالي بالسّوء". يرى السّوء فلا يحاسب عليه، وإلاّ يصبح الشّخص حامل ضغينة في قلبه. أمّا الصّفح فيحاول أن يكون إيجابيًا بوجه الإساءة والشّر، إذ يحاول تفهّم ضعف الآخر، وإيجاد أعذارًا له، مثلما فعل يسوع تجاه صالبيه: "يا أبتِ، اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ما يفعلون" (لو 23: 24). لكن الميل الطّبيعي فينا هو البحث عن الأخطاء، وافتراض النّوايا السّيئة. الأمر الّذي يؤدّي إلى اضطراب الإستقرار في الحياة العائليّة.
أمّا الصّفح فممكن ومرغوب فيه. ولا أحد يقول أنّه سهل. وحده روح التّضحية يسمح بحماية الشّركة العائليّة والسّعي بها إلى كمالها. هذه الشّركة تقتضي انفتاحًا سخيًا ومستعدًا من قبل الجميع ومن كلّ واحد للتفهّم والتّسامح والغفران والمصالحة. لا أحد يجهل كم أنّ الأنانيّة والنّزاعات والتوتّرات تضرّ بالشّركة العائليّة، وغالبًا ما تلاشيها.
الصّفح عن الآخرين يمرّ عبر الصّفح عن الذّات، بحيث يذكر كلّ واحد أخطاءه وحدوده ويتفهّمها، وحينئذن يتفهّم نقائص غيره ويصفح عنها. لكن يفترض الرّجاء بأنّ الله يغفر لنا خطايانا ونقائصنا، ويبرّرنا مجّانًا من من دون أي استحقاق منّا. لقد مسّنا بحبّه قبل أن نأتي بأي عمل. ويعطينا دائمًا مجالاً جديدًا ويدفعنا إلى الأمام. إنّ محبّة الله غير المشروطة وحنانه يستحثّاننا لنحبّ الأخرين ونغفر لهم، حتّى لو أساؤوا إلينا وارتكبوا الظّلم بحقّنا. وإلاّ لم تعد الحياة في العائلة مكان التفهّم والمرافقة والتّشجيع، بل تصبح مساحة توتّر دائم وعقاب متبادل.
صلاة
بشفائك لأعمى طيما بن طيما بسبب إيمانه، أظهرت أنّك نور العيون والعقول والقلوب. نسألك أن تزيدنا إيمانًا لكي نصرخ إليك مثل الأعمى، في ظلمة الحياة والظّروف المحدقة: "يا ربّ أن أَبصِر!". كم العالم بحاجة إلى نورك كي يبدّد ظلمات: الجهلِ الرّوحي والإنحرافِ الأخلاقي والظّلمِ والكبرياء والاستخفاف. أسكب في قلوب الأزواج والأولاد في عائلاتنا الحبّ الّذي يصفح ويتفهّم ويردّ الإساءة بالغفران، كي تظلّ شركةُ الحياة والحبّ انعكاسًا لسرّ الثّالوث القدّوس. ونرفع إلى الحبّ اللامتناهي، الآب والإبن والرّوح القدس، نشيد المجد والتّسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك الراعي - موقع بكركي.