بعد عيد الثالوث الأقدس، تتأمّل الكنيسة في سكناه في حياة المؤمنين والمؤمنات الذين يحبّون المسيح، قابلين وحافظين وصاياه. فحينئذٍ يكون تبادل شركة الحبّ بين الله والإنسان. وتنكشف له أسرار الله وملامح وجهه وحضوره. ويصبح الشّخص المؤمن مسكنًا للثالوث القدّوس.
أولاً، شرح الإنجيل
من إنجيل القدّيس يوحنّا 14: 21-27
قالَ الرَبُّ يَسُوعُ لِتَلاميذِهِ: «مَنْ كَانَتْ لَدَيْهِ وَصَايَاي ويَحْفَظُهَا، هُوَ الَّذي يُحِبُّنِي. ومَنْ يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وأَنَا أُحِبُّهُ وأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي». قَالَ لَهُ يَهُوذَا، لا ذَاكَ الإِسْخَريُوطِيّ: «يَارَبّ، مَاذَا جَرَى حَتَّى تُظْهِرَ ذَاتَك لَنَا، لا لِلعَالَم؟». أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: «مَنْ يُحِبُّنِي يَحْفَظُ كَلِمَتِي، وأَبِي يُحِبُّهُ وإِلَيْهِ نَأْتِي، وعِنْدَهُ نَجْعَلُ لَنَا مَنْزِلاً. مَنْ لا يُحِبُّنِي لا يَحْفَظُ كَلِمَتِي. والكَلِمَةُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا لَيْسَتْ كَلِمَتِي، بَلْ كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرْسَلَنِي. كَلَّمْتُكُم بِهذَا، وأَنَا مُقِيمٌ عِنْدَكُم. لكِنَّ البَرَقْلِيط، الرُوحَ القُدُس، الَّذي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، هُوَ يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيء، ويُذَكِّرُكُم بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُم. أَلسَلامَ أَسْتَودِعُكُم، سَلامِي أُعْطِيكُم. لا كَمَا يُعْطِيهِ العَالَمُ أَنَا أُعْطِيكُم. لا يَضْطَرِبْ قَلْبُكُم ولا يَخَفْ!».
1. كلّ هذا النصّ يدور حول كلمتين: كلام المسيح والمحبّة. وهما أساس العلاقة المتبادلة بين الله والإنسان. فالله الذي هو المحبّة، أحبّنا وخلقنا وافتدانا واستودع المحبّة بالرُّوح القدس في قلوبنا. والإنسان مدعو ليبادل الله المحبّة حافظًا كلامه ووصاياه وعاملًا بها، لكي يسكن الله في قلبه، فينال الخلاص ويمتلك سلام المسيح.
يظهر بوضوح في هذا النصّ أيضًا سرّ الثالوث القدّوس: الآب الذي يحبّ كلّ إنسان يحبّ ابنه يسوع. والابن يكشف لمحبّيه كلّ ذاته الإلهيّة. والرّوح القدس، المرسل من الآب والابن، هو المؤيّد والمثبّت والمعلّم والمذكّر بكلّ تعليم الابن ووحيه.
2. أساس العلاقة بين الإنسان والله تنطلق من محبّتنا للمسيح الظاهرة في قبول كلامه ووصاياه، وفي حفظها والعمل بموجبها: "مَن كانت لديه وصاياي ويحفظها، هو الذي يحبّني" (الآية 21).
لا ينصبّ اهتمام الربّ يسوع على الوصايا كحرف وشريعة، بل على الإنسان. بحيث أنّ الوصايا هي الطريق إلى الله والخلاص، لا غاية، وأنّ محبّة الإنسان ليست للوصايا والشّرائع بحدّ ذاتها، بل للمسيح. فحبًّا به نحافظ على كلامه ووصاياه، لأنّ محبّتنا توق إليه، إلى مشاهدته وإلى اللّقاء به. أليس مَن يحبّ شخصًا، يتوق إلى مجالسته واللقاء به مضحيًّا بالوقت والمسافات وعناء الطريق وازدحام السَّير؟
كلام المسيح يدعونا لنصنع الخير مع أنفسنا حبًّا به. إنّه يحبّنا أكثر ممّا نحن نحبّ أنفسنا. ولذا، يريد أن يكون لنا كلّ ما هو له. المحبّة هي وليدة إيماننا بالمسيح.
3. ويضيف الربّ في الآية نفسها: "مَن يحبّني يحبّه أبي، وأنا أحبّه وأُظهر له ذاتي"، مبيِّنًا أنّ الله يجيب على المحبّة بالمحبّة. هذه هي نقطة الوصول والهدف النهائيّ، عندما نسلك طريق الوصايا بمحبّة الله. أمّا محبّة الله فهي كشف ذاته لمحبِّيه بالمسيح، شعاع الآب وصورة بهائه ومجده. وهذا لم يكن ممكنًا قبل تجسّد الابن الإلهيّ وموته وقيامته.
عندما طلب موسى من الله: "أرني مجدك" فكان جواب الله: "لا أحد يستطيع أن يعاين الله ويحيا" (خروج 23: 18-20). كلام يسوع جاء جوابًا لطلب سابق وجّهه إليه فيليبس: "أرنا الآب وحسبنا" (يو 14: 8)، ليقول أنّه يكشف وجه الآب ويعرّف به ويمكّن من رؤيته كلّ مؤمن يحبّ المسيح. ما يؤكّد أنّ علاقتنا بالله ليست علاقة عقليّة ومخبريّة، ولا هي معرفة الحقائق الإلهيّة على المستوى الفكريّ فقط، بل ترتكز على رباط الحبّ الذي يجمع بين أقانيم الثالوث القدّوس.
4. ليس الله نظريّة يمكن شرحها لمَن يقول لك: "إشرح لي الإيمان. أقنعني بوجود الله لكي أؤمن". بل هو إله حيّ لا يتفاعل إلّا مع الحبّ. هذا الحبّ هو القوّة الدّافعة في حياة القدّيسين والشّهداء والنسّاك والمرسلين والناذرين نفوسهم لخدمة المحبّة وذوي كلّ مرض وإعاقة وحاجة. مع الله الأمور لا تقاس سوى بالحبّ الذي يتخطّى حدود العقل.
الإيمان لا يُبنى على العجائب والمعجزات، بل على محبّة الله. أمّا الظاهرات الخارقة فما هي سوى فرصة ودافع لتقوية المحبّة والتوبة وتغيير المسيرة. هي خادمة الإيمان لا أساسه. كم أجرى الربّ يسوع من آيات وعجائب، ومع ذلك ظلّ العديدون لا يؤمنون به. وقال: "لا يُقبل نبيّ في مدينته" (يو4: 44). بل رفضوه وطالبوا بصلبه.
5. وقع كلام يسوع في قلب يهوذا أحد الاثني عشر، فتولّدت عنده المحبّة الرّسوليّة، وهمّ إشراك الآخرين بالنعمة التي أُعطيت لهم. فسأل يسوع: "كيف تُظهر ذاتك لنا لا للعالم؟ (الآية 22). هذه المحبّة الرّسوليّة تدفع بالكنيسة وبمؤسّساتها لتذهب إلى كلّ البلدان والشّعوب لتحمل البُشرى بُشرى الإنجيل الخلاصيّة. إنّها بُعد أساسيّ وجوهريّ في حياة المسيحيِّين عامّة، والكهنة والرُّهبان والرَّاهبات خاصّة. لقد فكّر يهوذا واهتمّ بخلاص الآخرين. يرسل الربّ يسوع كلّ أبناء الكنيسة وبناتها، كما أرسل تلاميذه الأحد عشر: "إذهبوا إلى العالم كلّه. وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين. فكلّ مَن يؤمن ويعتمد يخلص. ومَن لا يؤمن يدان" (مر16: 15-16). إنّه كلام يهزّ ضمير الكنيسة برعاتها ومؤمنيها ومؤسّساتها.
6. ويفاجئنا المسيح الإله بما لا يخطر على عقل إنسان وهو أنّه يجعل الذين يحبّونه مسكنًا لله: "مَن يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل منزلًا" (الآية 23). إنّه ارتفاع شأن الإنسان، إذ يجعله الله سكناه. فهو لا يسكن في بيوت من حجر بل في كيان الإنسان. إنّ دور العبادة هي المكان الذي تتوفّر لنا فيه كلّ وسائل اللقاء بالله. وهي الوسائل التي تهيّئنا لنكون سكنى الله، أعني كلام الله وتعليمه، ونعمة الأسرار الخلاصيّة، وسائر الأفعال الليتورجيّة.
في المسيحيّة، الإنسان هو المحور لعمل الله الخلاصيّ، وكأنّ الله وضع نفسه في خدمة الإنسان، بينما في الديانات الاخرى، الإنسان هو في خدمة الله، كخادم عند سيّده: "لست أدعوكم عبيدًا بل أحبّاء" (يو15: 15).
7. يعود الرّبّ يسوع ويكلّمنا عن الرّسالة الموكولة منه إلى الكنيسة، وبالتالي إلينا كلّنا، بقوله: "الكلمة التي تسمعونها ليست كلمتي، بل كلمة الآب الذي أرسلني" (الآية 24).
هذا يعني أنّ كلام المسيح وتعليم الكنيسة والرّسالة التي تقوم بها، ليست من البشر، بل هي إرادة الله. هي مشروع الله نفسه. إنّها "كلمة الآب" أي مشروع الآب الخلاصيّ. هذا يعني أنّ الرِّسالة إرادة إلهيّة وليست خيارًا شخصيًّا، خاضعًا لإرادة الشّخص وهواه، ولا هي موضوع إلتزام أو غير إلتزام، ولا خيار بين القيام بالرّسالة أو بالتخلّي عنها أو رفضها. كم نحن بحاجة إلى الرُّوح الرَّسوليّة التي تمكّننا من مواجهة المصاعب والمِحَن، ومن الإنتصار على الأهواء الذاتية.
وبقوله "إنّها كلمة الآب"، إنّما يريد الرَّبّ يسوع التّأكيد على أنّ نجاح الرّسالة مضمون بضمانٍ إلهيّ، رسالة الله بالذّات، وليست رسالة البشر. الله يريدها، وهو المسؤول عنها والضامن لنجاحها. أمّا دورنا فهو أن نعمل بما يريده الله، وبخاصّة ما يتعلّق بالمحبّة الإجتماعيّة التي يصفها القدّيس متى في إنجيله (متى 25: 31- 40).
ثمّ يذكّر الربّ من جديد بالضمانة الإلهيّة لنجاح الرّسالة، بوعده بإرسال الرُّوح القدس الذي "يُعلّمكم كلّ شيء، ويُذكّركم بكلّ ما قلته لكم" (الآية 26)، بوصفه "برقليطًا"، أي محاميًا ومؤيّدًا، واقفـًا إلى جانب المؤمنين ومعهم لمساعدتهم وتوجيههم وإلهامهم.
أمّا نتيجة كلّ ما سبق فهو عطيّة "سلام المسيح" التي تقوّي القلوب وتنتزع منها كلّ خوف واضطراب، وهذا سلام لا يُمكن أن يعطيه العالم. وإن أعطاه يكون خارجيًّا فقط وعابرًا وسريع الزّوال.
* * *
ثانياً، الخطوط العريضة لجمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة بالشّبيبة (تشرين الأوّل 2018).
من أجل إِشراك أكبر عدد مُمكن في المرحلة الإستعداديّة لعقد هذه الجمعيّة العموميّة بموضوع "الشبيبة والإيمان وتمييز الدّعوة"، نواصل نقل مضمون وثيقة "الخطوط العريضة". نقدّم ثلاث ميّزات لشباب اليوم، وفقاً لدراسة أُجرِيَت على صعيد دولي.
1. الإنتماء والمشاركة
لا يرى الشباب ذواتهم فئة محرومة أو فريقـًا إجتماعيًّا ينبغي حمايته. ولا يريدون أن يكونوا فقط متقبّلين لبرامج راعويّة وخيارات سياسيّة، من دون مشاركة فاعلة من قبلهم. إنّهم يرغبون في أكثريّتهم بأن يكونوا أصحاب دور فاعل في مسارات تغيير الحاضر.
ومعلومٌ أنّ الفاصل بين الفئتين أعلاه هو نتيجة الظّروف الفعليّة المقدّمة لكلّ واحد داخل محيطه الإجتماعيّ والعائليّ، بالإضافة إلى اختباراتهم قبل ولوج سنّ الشّباب.
2. نقاط مرجعيّة شخصيّة ومؤسّساتيّة
يشعر الشباب بالحاجة إلى وجوه كمرجعيّات، قريبة، وذات مصداقيّة، ومخلصة، وإلى أماكن ومناسبات، بحيث يتمكّنون من تجربة قدرتهم على العلاقة مع الآخرين، أكانوا كبارًا أم صغارًا، ومن مواجهة الديناميّات العاطفيّة. إنّهم يبحثون عن أشخاص مميّزين بالإنسجام الذاتي، وقادرين على دعمهم وتشجيعهم ومساعدتهم، كي يعرفوا حدودهم، من دون إثقالهم بأحكام.
من بين المرجعيّات الأخرى الوالدون والعائلات، على ألّا يفرضوا خياراتهم على أولادهم الشّباب، وألّا يُقلّلوا من قيمة قدرات شبابهم، وألّا يركّزوا على سرعة عطبهم.
ويرغب الشّباب في المواجهة المفتوحة مع أترابهم. من أجل هذه الغاية، يحتاجون إلى مناسبات للتّلاقي والتّعبير. وإنّهم يضمرون الحذر وعدم الإكتراث والسّخط تجاه المؤسّسات، وأيضًا تجاه السّياسة ومؤسّسات التّنشئة والكنيسة كمؤسّسة، إذ يريدونها أقرب إلى النّاس، وأكثر اهتمامًا بالمعضلات الإجتماعيّة.
كلّ هذا يجري في محيط شباب يألفون العيش من دون الله؛ ويمارسون أشكالاً بديلة من التديّن والروحانيّات؛ ويلجأون إلى البدع إلى خبرات دينيّة تقويّة ذات شعور بالهويّة. ويزداد هذا الواقع حيث لا تتواجد الكنيسة، وحيث تطغى ثقافة الإستهلاكيّة والفردانيّة في إطار العولمة.
3. نحو جيل تواصليّ بإفراط
أجيال شباب اليوم مطبوعة بالعلاقة مع تقنيّات التّواصل الحديثة، ومع ما يُسمّى "العالم الإفتراضي" (monde virtuel) ولكنّه يتضمّن مفاعيل واقعيّة جدًّا. هذا النّوع من التّواصل المتطوّر يقدّم في آن سلسلة من الفرص لم تكن متاحة للأجيال السّابقة، والكثير من المخاطر.
في هذا الإطار يندرج عمل الكنيسة الرّاعوي.
* * *
صلاة
أيّها الرّبّ يسوع، باتخاذك جسدًا بشريًّا، وصار في شخصك الإتّحاد الكامل بين الطّبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة، أردت أن تتّحد بكلّ إنسان، وتجعله مسكنًا لله. واقتضيتَ أن يكون في قلب هذا الإنسان حبٌّ لك، يجسّده في حفظ كلامك، كلام الحياة الأبديّة، وفي عَيش وصاياك المؤدّية إلى خلاصه. هبْنا، يا ربّ، النّعمة اللّازمة كي ندرك هذه الدّعوة المقدّسة، فنسعى إليها دائمًا، ونجد السّلام الدّاخلي، ونبنيه في محيطنا. فنرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
التنشئة المسيحية للبطريرك الراعي - موقع بكركي