الله يهب الروح بلا حساب

متفرقات

الله يهب الروح بلا حساب

 

الله يهب الروح بلا حساب

 

 

في قلب كلّ إنسان رغبة في الله، شعور عميق يدعوه للدّخول في علاقة مع الله، وقد عبّر عنه القدّيس أغسطينوس أبلغ تعبير، حين قال: "لقد خلقتنا لك يا الله وقلبنا لن يرتاح إلّا فيك". في قلب كلّ إنسان إشتياق عظيم لإلتقاء الله، للإرتماء في حضنه، للإرتواء من نبع حياته وفيض روحه.

 

وقد كان يسوع تجسيدًا حيًّا للإنسان الممتلئ شوقـًا لله وثقة به، وصارت صلاته علاقة حيّة ومحيية بالله، تنير وتوجّه وجوده كلّه. وقد أيقظ يسوع في تلاميذه الرّغبة في الحياة، وفهموا أنّه هو من يروي فيهم عطشهم لله، فطلبوا منه أن يقودهم في طريق الحياة وأن يعلّمهم الصّلاة.

 

فماذا يفعل يسوع؟ يشرك تلاميذه في سرّ قلبه، ويفصح لهم عن أنّ الصّلاة ليست كلمات أو طقوس أو عبادات، بل هي إنطلاقة القلب ببساطة وثقة نحو الله، كقفزة الطفل بين يديّ أمّه، كاحتضان الصّديق لصديقه، والمحبّ لحبيبه.

 

هي كلمة حبّ وحياة تجمع الإنسان بالله، والله بالإنسان. وماذا يطلب الإبن والصَّديق والحبيب؟ يطلب الحياة من الآب، لأنّها ضمان حياته، وفي الله فرحه وهناؤه. إنّ سعادة الأبناء هي في حياة أبيهم، ولذا يطلب يسوع أن يُقدّس اسم الآب وأن يأتي ملكوته. قلب الله هو سكنى يسوع، فيه يجد ذاته وحرّيته، وفيه يجد فرحه وحياته.

 

ويسلّم يسوع حياته ووجوده بين يديّ الآب، واثقـًا بأنّه يمنحه كلّ يوم ما يحتاج إليه من غذاء ونعمة ونور. وأعظم نِعمة هي نِعمة الحياة المتجدّدة في الغفران، فهو خلْقٌ جديد يوميّ، يُحرّر قلب الإنسان من قيود الأنانيّة والعنف. فمن لا يعرف طعم البنوّة ولا معناها، يغرق في ذاته بحثًا عن ضمانات لا تلبث أن تسقط وأن تتهاوى، تاركةً القلب خاويًّا، خاليًّا، تعيسًا وخائفـًا. وكلّ يوم يأتي الله ليُنهِضَ الإنسان مُجدّدًا، ليأخذه في حضنه، مقبّلاً إيّاه كأب حنون وعطوف.

 

والعلاقة بالله هي نِعمة منه، تقوم على الإيمان به، وتتطلّب أن يلقي الإنسان بنفسه بين يديّ الآب كلّ يوم. وإذا كانت تقوم على الإيمان، فهي نداء ودعوة يوميّة للحرّيّة، وموضع لتجديد الإختيار والقرار. الأبوّة ليست قدرًا أو إجبارًا، بل هي عطاء وبذل، محبّة ومغفرة تنتظر تجاوب الأبناء بحرّيّة، ولذا فالتجربة تكمن في أن يتساءل الإنسان إن كان الله معه أم لا؟ هل يهتمّ بأمره أو نسيه؟

 

وتأتي الصّلاة اليوميّة لتُخرجنا من دائرة هذا التساؤل العقيم، لنردّد: يا أبانا، نَعم نؤمن ونعرف أنّك أبونا، نبع حياتنا وضمانها، سندنا وقوّتنا، معك يزداد ويفيض كلّ شيء، لأنّك تعرف حاجاتنا إلى الخبز والعمل والحبّ والنجاح والسّلام، وعندما نبحث عنك وعن ملكوتك وبرّه، يتحرّر قلبنا من القلق والخوف، وتنفتح أعيُننا لترى حضورك ونِعمتك في كلّ ما نعيشه.

 

إنّ الله يسكن قلب الإنسان، هو روح الحياة، ولذا يدعونا يسوع بإلحاح كي ننظر إلى داخلنا ونكتشف حضور الآب معنا وفينا، "ويجيء الرّوح أيضًا لنجدة ضعفنا، فنحن لا نعرف كيف نصلّي كما يجب، ولكنّ الرّوح يشفع لنا عند الله بأنّاتٍ لا توصف. والله الذي يرى ما في القلوب يعرف ما يريده الرّوح، وكيف أنّه يشفع للقدّيسين بما يوافق مشيئته" (رو 8: 26-27).

 

يدعونا يسوع إلى الثقة والإيمان بأنّ الله هو أبونا، يعرف حاجاتنا الإنسانيّة كلّها ويقدّرها ويحبّها، لأنّه يعرف جبلتنا ويسكن فيها. ولكنّ الأهم والأساسيّ لنا لا يكمن في أمور العالم الجميلة والمشروعة في حدّ ذاتها، كالصحّة والعمل والمسكن، بل في سلام القلب الواثق والمتيقن بأنّ الله أبوه "يعمل سويّةً مع الذين يحبّونه لخيرهم في كلّ شيء" (رو 8: 28).

 

والقلب الممتلئ من النّور والسّلام يقدر أن يجدّ بحثًا عن عمل، وأن يفرح بما يتيسّر له من مسكن، وأن يشكر على نِعمة الحياة بالرّغم من وهن الجسد وأتعابه.

 

 

من قلب علاقتنا البشريّة بعضنا ببعض يُمكننا أن نفهم حضور الله معنا وفينا، لأنّه حاضر في علاقة الأب بأبنائه والصّديق بأصدقائه. وإذا كنّا نحسن العطاء لأولادنا وأصدقائنا لأنّنا نحبّهم، فلا بدّ وأن تنفتح أعيُننا على مصدر هذا الحبّ الإنسانيّ فينا، وأن نتطلّع إلى نبع الحياة فينا، ذاك من يحوّلنا كلّ يوم إلى بشر قادرين على أن يحبّوا بعضهم بعضًا.

 

إنّ الله هو روح وحياة، أصل كلّ أبوّة وأمومة وأخوّة وصداقة في حياتنا، ولا يمكننا أن نحيا بشرًا إلّا إذا طلبنا منه روح الفرح والحياة، وهو لا يرغب إلّا أن يفيضه علينا، "لأنّ الله يهب الرُّوح بلا حساب" (يو 3: 34).

 

 

 

الأب نادر ميشيل اليسوعيّ