تطرح الروحانيّة الإغناطيّة علينا السؤال التالي: ما المزيد الّذي يريده الله منّي؟ لقد عُرف القدّيس إغناطيوس ببصيرة ثاقبة حول تأمّله بالله وخليقته، وقد طوّر طرائق صلاة كثيرة، ووضع قواعد تمييز الأرواح، والتلمذة الروحيّة، ومقاربات عدّة حول الخدمة الرسوليّة. لكن كلّ هذه العناصر الّتي تُعتبر دعائم الروحانيّة الإغناطيّة، ما هي إلّا طرائق تُساعدنا على الإجابة على هذا التساؤل العميق الّذي يحفر في قلوبنا: ما المزيد الّذي يريده الله منّي؟
الله يدعو، ونحن نستجيب لهذه الدعوة. هذه هي الديناميّة العميقة للحياة الروحيّة. تصوّر لنا الصلاة الختاميّة (تمرين روحيّ) لكتاب الرياضات الروحيّة، الله وهو يسكب حبّه اللامتناهي ونِعمه الّتي لا حدّ لها على عالمنا: "كما ينسكب شعاع الشمس على الأرض". وهذه الرؤيا الّتي يقدّمها لنا إغناطيوس، ليست رؤيا كونيّة (على مستوى الكون) بل لها أبعادًا شخصيّة، فهي تخصّ كلّ واحدٍ منّا بشخصه. أورد القدّيس إغناطيوس في كتابه الرياضات الروحيّة: إنّ الهدف من الرياضات الروحيّة، هو تسهيل عمل النِعمة الإلهيّة فينا: "إذ يُضرم حبّ الله ونوره جميع القرارات الممكنة الّتي قد نتّخذها في حياتنا".
إنّ إلهنا إله نشيط، فهو يعمل دومًا بدون كلل في حياة الّذين يحبّونه، يدعوهم، ويُرشدهم، ويقودهم، ويكشف لهم طُرق الحياة، ويقترح عليهم تتميم مشيئته. إنّ هذا الفهم لله، يُحرّك الروحانيّة الإغناطيّة من الداخل ويُضفي عليها الوحدة. فجميع التمارين الروحيّة وتقنيّات التأمّل قد وضعت في سبيل مساعدتنا الإصغاء بشكلٍ أعمق لهذا الإله النشيط. ويمكننا تعريف الروحانيّة الإغناطيّة على أنّها ميكانيكيّة فاعلة تقودنا دومًا للإصغاء لمشيئة الله، وتحثّنا على الاستجابة لدعوته لنا.
إنّ استجابتنا لدعوة الله لنا تحصل الآن، فلم يُكتب لنا أن نكون أسيري ضعفنا وسقطاتنا. ولا نحن مدعوّون للتأمّل بعدم استحقاقنا. فالله يعمل فينا الآن، وهو ينتظر إستجابتنا له الآن.
وهذا بالضبط موقف يسوع عندما دعا التلاميذ الأوّلين. ففي أحد الأيّام، طلب يسوع من سمعان (بطرس) أن يرمي شبكته في عرض البحر، في مكانٍ سبق له ولأخيه أن حاولا فيه الصيد طيلة الليل. عارض بطرس في بداية الأمر، لكنّه حصل في نهاية الأمر على صيدٍ كبير، وكانت علامة واضحة له لأن يكون أحد اتباع يسوع. لكنّه اعترض ثانيةً مبرزًا عدم استحقاقه لهذه الدعوة، فهو خاطئ: "فلَمَّا رأَى سِمعانُ بُطرُسُ ذَلِكَ، اِرتَمى عِندَ رُكبَتَي يَسوعَ وقال: يا ربّ، تَباعَدْ عَنِّي، إِنِّي رَجُلٌ خاطِئ، لكنّ يسوع تجاهل ما قال بطرس على الرغم من صحّته. فقالَ يسوعُ لِسِمْعان: لا تَخَفْ! سَتَكونُ بَعدَ اليَومِ لِلبَشَرِ صَيَّاداً. فرَجَعوا بِالسَّفينَتَينِ إِلى البَرّ، وتَركوا كُلَّ شَيءٍ وتَبِعوه." (لوقا ٥: ٨، ١١).
لقد أحاط يسوع نفسه بالخطأة. ويسترعي القدّيس إغناطيوس انتباهنا لدعوة متّى، فقد كان جابيًا للضرائب، عميلاً للرومان المكروهين، وقد عاش متى على اقتطاع الضرائب من الشعب الإسرائيليّ. وعندما التقى يسوع بمتّى عند طاولة جبايته المعتادة، دعاه بكلمة واحدة بسيطة: "إتبعني". واستجاب الخاطئ لهذا الأمر: "فقامَ فتَبِعَه". وقد أقام متّى حفلة احتفالاً بحياته الجديدة، فقد دعا أصدقاءه القدامى ليلتقوا مع الجُدد منهم: "وجَلَسَ يسوعُ لِلطَّعامِ عِندَه، وجَلَسَ معَه ومع تَلاميذِه كثيرٌ مِنَ الجُباةِ والخاطِئين". وعندما اعترض الفريسيّون على هذا المشهد، أجابهم يسوع: "ليسَ الأَصِحَّاءُ بِمُحْتاجينَ إِلى طَبيب، بلِ المَرْضى. ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبرار، بلِ الخاطِئين." (مرقس ٢: ١٤ ،١٥، ١٧).
يرسم لنا الكتاب المقدّس كيف أنّ يسوع قد دخل في عمق حياة الناس، ودعاهم ليتبعوه، تمامًا في تفاصيل حياتهم اليوميّة، من على قوارب الصيد، وطاولات الجباية. فلم يسألهم أولاً أن يذهبوا إلى المجمع، ولا يطلب منّا تأجيل استجابتنا لله حتى نتخلّص من ضعفاتنا، وشوائبنا، وخطايانا.
إن استجابتنا لله تنمو وتتعمّق مع الزمن. فهي مسيرة، وليست حدث. كتب بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: "قد غَذَوتُكُم بِاللَّبَنِ الحَليبِ لا بِالطَّعام، لأَنَّكُم ما كُنتُم تُستطيعون هضمه". (كورنثوس الأولى ٣: ٢). إنّ الله سيهبنا ما نحتاج إليه، فإن كنّا مبتدئين في حياتنا الرسوليّة والروحيّة، أو إن كنّا نرزح تحت الشدائد والضُعف… سيأتي الله ويُغذّينا. ومن بعدها سيكون لنا طعامًا للبالغين. لكن، أينما كنّا في هذه المسيرة، نحن نُلبّي دعوة الله لنا: "اتبعني".
ثمّة معيار مهمّ لدعوة الله لنا، الله يدعو، أي أنّ الله يُبادر؛ ونحن نستجيب. إذًا، الدعوة لا تنبع من عندنا، نحن "نتبع"، وأن نتبع يعني أنّنا نقبل بجملة من الأعمال والمواقف يكون فيها فعلنا منفعل… والفعل المنفعل هو ما يتوافق مع جوهر الروحانيّة الإغناطيّة. فهي روحانيّة إصغاء، ومشاهدة، وانتظار، ومراقبة حركة المدّ والجزر لحركاتنا الداخليّة ومشاعرنا. وما نحن سوى خدّام ننتظر كما جاء في المزمور: "هوذا كما أن عيون العبيد نحو أيدي سادتهم، كما أنّ عيني الجارية نحو يد سيّدتها، هكذا عيوننا نحو الرّبّ إلهنا حتى يترأف علينا." (مزمور ١٢٣: ٢).
إنّ السؤال الّذي نبحث عن جوابٍ له هو: ما المزيد الّذي يريده الله منّي؟ - والمزيد هنا هو مصطلح إغناطيّ هو "ماجيس" ويعني الميل الدائم لحياة الخدمة لتحقيق مجد الله الأعظم - وقد أخطأ الكثيرون في ترجمتها على أنّها روح اليسوعيّ الّذي يرنو دومًا إلى المزيد من العلوم، وعدم الهوادة في حياة الخدمة، وتحقيق المعايير القصوى للخدمة، والرغبة في فتح حدود جديدة لرسالة الكنيسة. إذ إنّه ببساطة يعني المزيد: بما أنّ الله يحبّنا بلا حدود، نستجيب لهذا الحبّ، لكن بمزيد يتجاوب مع هذا اللامحدود.
وهذا هو بالضبط ما سأله الشاب الغني ليسوع: "وبَينَما هو خارِجٌ إِلى الطَّريق، أَسرَعَ إِليه رَجُلٌ فجَثا له وسأَلَه: أَيُّها المُعَلِّمُ الصَّالح، ماذا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة ؟ فقالَ له يسوع: لِمَ تَدْعوني صالِحاً؟ لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه. أَنتَ تَعرِفُ الوَصايا: لا تَقتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بِالزُّور، لا تَظْلِمْ، أَكْرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ. فقالَ له: يا مُعلِّم هذا كُلُّه حَفِظْتُه مُنذُ صِباي. فحَدَّقَ إِليهِ يسوع فأَحبَّه فقالَ له: واحِدَةٌ تَنقُصُكَ: اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فَاتَبعْني. (مرقس ١٠: ١٧ -٢١).
تحدّى يسوع الشاب الغني، ويتحدّانا نحن أيضًا، لأن نكون أحرارًا ممّا نمتلكه. وقد تكون هذه الممتلكات ماديّة، وقد تكون أفكارًا أو رغبات. الله يدعونا لأن نكون متحرّرين من هذه الأمور. فنقدّمهم لله، وهو سيُعيد تشكيلهم، واستخدامهم بحسب مشئيته. إنّ الله يرنو إلينا بحبّ… والسؤال هنا: ما المزيد الّذي يريده الله منّي لاستجيب لهذا الحبّ؟
الأب ديفيد فليمنغ اليسوعيّ