عندما ننظر إلى الدمار أو صوَر أعمال العنف بين القبائل ...، إذا سمعنا بوفاة أُمًا شابّة بمرض السرطان أو أن شابًا أقدم على الانتحار، نتساءل: لماذا يسمح الله بأمورٍ كهذه؟ أين هوَ ولماذا لا يتدخَّل؟
الجواب الذي يُقدّمهُ ابن سيراخ يُذهلني. يقول هذا الحكيم (يشوع بن سيراخ 15: 15-20): لا تلوموا الله. الاختيار بين الخير والشرّ، بين الماء والنار يتعلّق بكَ.
لقد وضع الربّ أمامكَ الحياة والموت. لقد أعطاكَ القدرة على الاختيار بين الخير والشرّ، بين البناء والتدمير. إنّه ينظر إليكَ بثقة، لكن في الوقت ذاته مع بعض القلق فهو «لم يوصِ أحدًا أن يكون كافرًا؛ ولا أذَنَ لأحد أن يخطأ».
منذ أن خلق الله الإنسان حُرًّا، توقّف عن أن يكون كُليّ القدرة. لقد وضع مصير العالم بين أيدينا ولا يمكنه سوى أن يبكي إذا ابتعدنا عنهُ، كما بكى أمام قبر صديقه أليعازر وأمام مدينة أورشليم – التي «تقتل الأنبياء» وترفض دعوة الله، وأمام كلّ إنسان يختار النار والموت بدلًا من تفضيله للماء والحياة.
إبطال أم إكمال؟
الأخلاقية التي يقدّمها يسوع ليست سهلة. في إنجيل (متى 5: 17-37) الذي يقع في قلب نصّ «العظة على الجبل» يُحدّثنا يسوع عن القتل، والزنا، واليمين الكاذبة. إنّه يقدّم لنا شريعةً جديدة، تذهب إلى ما هو أبعد من الحرف. ومن هنا هذه العبارة التي تصدمنا: «إن لم يَزِد برُّكُم على بِرِّ الكتبة والفرّيسيين، لا تدخلوا ملكوت السموات».
يسوع يدعونا إلى أمانة القلب والمحبّة الأخويّة... نوعًا ما كالتي يدعونا إليها البابا فرنسيس الذي يُجيب على الأسئلة التي طُرحت عليه من قِبَل الصحفيّين بخصوص المثليّة الجنسيّة، والسماح للأشخاص المُطلّقين بالمناولة المُقدّسة أو منح المعموديّة لأطفال من أبوين غير متزوجين: «إني أرى الكنيسة كمستشفى بعد معركة... من الضروري تضميد الجراح. ويمكننا بعد ذلك أن نتكلّم عن الباقي... الأولويّة هي الإعلان عن حُبّ الله الخلاصيّ ويأتي بعدها ما يتعلّق بالالتزام الأخلاقيّ والدينيّ».
لا يسعى الأب الأقدس من خلال جوابه هذا أن يُبطل الشريعة، إنّما أن يُكملها ويدعونا للذهاب إلى ما هو أبعد من الإخلاص للحرف كما يفعل الفرّيسيّون والكتبة. لأنّه... في كلّ مرّة أجرحُ فيها أخي من خلال نظرة ازدراء، أو كلمة بلا رحمة، أو حركة مُهينة، فأنا أرتكب جريمة قتل.
كلّما أنظر إلى امرأة نظرة تجعلها تشعر بالانزعاج وتُحيلها إلى جسد، أرتكب الزنا.
في كلّ مرّة أحلف وأستخدم اسم الله من أجل منفعتي الشخصيّة أو لكي أخدع الآخر، فأنا أكذب.
في كلّ مرّة أرفض أن أفتح يديّ لأشارك أخي بالثروة التي أعطاني إيّاها الله، فأنا أسرق.
دعونا لا نكتفي بالنقاوة الشرعيّة. لسنا بحاجة لأن نقلع عيننا أو نقطع يدنا؛ نحن بحاجة لأن نملأ قلبنا بالمحبّة. ومن المهمّ أكثر أن نتصالح مع أخينا من أن نقدّم ذبيحة غنيّة على المذبح. باختصار، دعونا لا نتصرّف بنفاق، لكي يرانا العالم، لكن لنحيا لإرضاء الله الذي يرى في الخفية ويعرف نوايا قلوبنا. الله لا يُقاضي سوى على مقدار المحبّة. وتحت نظره، مَن يرى نفسه بارًا سيُكشف عنه القناع، ومَن يعترف بأنّه ضعيف وخاطئ، يشعر بأنّه مقبول، محبوب، ويتمّ تشجيعه على المضي قُدمًا.
وفي الختام، أستلهم ممّا يقوله القدّيس بولس إلى أهل قورنثوس (2/ 6 -10): هذه ليست حكمة أولئك الذين يهيمنون على العالم. فكلّ ما يقوله يسوع بخصوص شريعة المحبّة، أمانة القلب والعدل والرّحمة، يتجاوز شريعة هذا العالم، وممارسات الكتبة والفرّيسيون، إنّها حكمة لم يرَها أحد بعينيه ولم يسمع بها بأُذنيه. إنّها حكمة مُهيّأة لأولئك الذين يحبّون الله.
وفي محبّة الله هذه سنحصل على القوّة والنّور لكي نميّز بين الماء والنار، بين الحياة والموت، وسنكون قادرين على البناء بدلًا من التدمير، الإكمال بدون أن نُبطِل... أن نعيش الأمانة التي لا تكتفي بالحرف، لكنّها تُهدي القلوب.
الأب هانس بوتمان اليسوعيّ