الله الرحوم أمينٌ لوعده (لو 1: 57-66)
في مولد يوحنا تتجلّى رحمة الله وأمانته لوعده. فاسم "يوحنا" الذي أراده الله وأوحاه لزكريا، بواسطة الملاك جبرائيل، يعني "الله رحوم". ومولد الصبي تحقيق للوعد. فالله أمين لذاته، وأمين لوعده. وتتجلّى رحمته في كلّ إنسان وجماعة وشعب.
1. يبدأ النصّ بالقول: "تمّ زمان إليصابات لتلد، فولدت ابنًا" (لو1: 57). لا يقتصر "تمام الزمان" على التسعة أشهر قبل ولادة الصبي، بل يعني أيضًا "تمام الزمان" المنتظَر بالصلاة والسيرة الصالحة والطاعة لوصايا الله ورسومه، من قبل زكريا وإليصابات؛ "وتمام الزمان" يعني وقت تقديسهما بحلول رحمة الله في بيتهما وعلى الشعب كلّه؛ "وتمام الزمان" هو الزمن السابق لميلاد يسوع المسيح مخلّص العالم وفادي الإنسان. فيوحنا هو "السابق" المشبَّه بالفجر الذي يستبق طلوع الشمس ويعلنه.
"تمام الزمان" دعوةٌ لنا لنعيش جمال انتظار تجلّيات الله في حياتنا وفي التاريخ. وهو انتظار قائم على الصلاة، والثقة بالله، والاتّكال على عنايته، والعيش في سلام داخلي، وعلى اليقين أن الله يتمّم إرادته، ويحقّق تصميمه الخلاصي بالتعاون مع كلّ واحد وواحدة منا.
"تمام الزمان"، في نظر جيران اليصابات وأقاربها، هو "إظهار رحمة عظيمة لها من الله، ففرحوا معها" (لو1: 58). جميل أن نميّز نعم الله في حياتنا وفي حياة غيرنا، ونفرح معهم على ما يخصّهم الله به من جودة رحمته. الفرح بعطايا الله تمجيد له وشكر وتسبيح، كما نعبّر في صلواتنا الليتورجية.
2. في مولد يوحنا، "تمّ الزمان" ليكشف الله عن أمانته لوعده، وعد الرحمة التي بها افتقد ويفتقد دائمًا شعبه. فأراد أن يعطى الصبي اسم "يوحنا"، لكي يذكّر الجميع أن "الله رحوم". إن رحمته بحسب اللفظة العبرية "رحاميم"، تعني مشاعر الحنان الصادرة من أحشاء أبوّته، ومنها رَحِمُ الأم. وبحسب اللفظة المكمّلة لها "حِسِدْ"، تعني أمانة الله لذاته الرحومة، فكلّ أعماله وعطاياه ونعمه هي رحمة.
3. يُطلق الاسم، حسب الشريعة القديمة أثناء ختانة الطفل، بعد ثمانية أيام لولادته (راجع تك 17: 11-12؛ لاوي 12: 3). الختانة هي رتبة تكريس المولود لله. أما في العهد الجديد، فحلّت المعمودية مكان الختان. وكانت العادة أن يُعمَّد الطفل بعد ثمانية أيام، ويُطلق عليه الاسم رسميًّا، ويسجَّل في سجلات الكنيسة والدولة. مع الأسف، طغا على الاحتفال بسرّ المعمودية الوجه الاجتماعي. فراح الأهل يؤجّلون منح نعمة المعمودية والميرون أسابيع وأشهرًا وسنين، تارةً من أجل تحضير الحفلة الاجتماعية، وتارة بانتظار عودة عرّاب الأولاد من مكان عمله في الخارج، وتارة لفقدان قيمة المعمودية والميرون كسرَّين مقدَّسَين يجعلان من المعمَّد عضوًا في جسد المسيح، الذي هو الكنيسة، وهيكلًا للروح القدس.
4. أراد الجيران والأنسباء أن يُسمّى الطفل باسم أبيه "زكريا" بسبب تقدّم أبيه في السّنّ، ولكون الطفل وحيدًا، من أجل أن يبقى الاسم في العائلة. اليوم يسمّون أحد الاحفاد باسم جدّه لهذه الغاية، لكن إليصابات رفضت وقالت: "بل يُدعى يوحنا". وأشاروا إلى أبيه الأبكم بماذا يريد أن يسمّيه فكتب: "اسمه يوحنا" للتأكيد على قول إليصابات فأخذهم العجب (راجع لو1: 59-63).
5. سؤال يطرح نفسه: كيف علمت أليصابات اسم الصبيّ الذي أعلنه الملاك لزكريا وقت الظهور في قدس الهيكل، طالما أنّ زوجها أبكم، لا يستطيع الكلام؟ تعدّدت التفسيرات، إلاّ أنّها جميعها تصبّ في خانة واحدة:
1) قد يكون الملاك نفسه، ظهر لأليصابات ليُعلمها بما سيجري لها. وبهذا نفهم أنّ عهد الربّ لا يقوم مع الرجل فقط بل مع المرأة أيضًا. فالربّ يقدّس الزواج المبنيّ على الحبّ والتضحية بين الزوجين وعلى العيش معًا تحت نظر الله.
2) ويمكن أن يكون الروح القدس قد أوحى لأليصابات في قلبها بما يحدث معها في حبلها.
3) ربّما فهمت أليصابات، في تأمّلها بما حدث مع زوجها من بكم، عمقَ ما أظهره له الملاك وما الذي سوف يحدث معها. فقرأت أليصابات مكنونات قلب زوجها من دون أن يتكلّم. وفي هذه الحالة نجد درسًا رائعًا عن الزوجين المثاليّين اللّذين يبلغان إلى التواصل الروحيّ حتّى يفهم الواحد الآخر من دون حاجة إلى كلام، إذ "يصير الإثنان جسدًا واحدًا" (متى19: 5). في جميع الأحوال نرى كيف أنّ هذا الحدث يتركّز بشكل أساسيّ على الحبّ الذي يربط بين جميع الأطراف: الربّ وزكريا وأليصابات. الحبّ هو المكان الذي يرضاه الله، فيأتي ليسكن حيث هو.
إنها صورةٌ جميلة عن الزواج المسيحيّ القائم بين ثلاثة: الرجل والمرأة والله، ويربط بينهما حبّ مقدّس. الأزواج المسيحيّون مدعوّون للتمثّل بهذه العائلة في عيش التناغم، حتّى يتمكّن كلّ منهم من فهم الشريك حتّى وإن لم يتكلّم. ليس هناك أجمل من أن يتحسّس مشاعر الآخر. الزوج الحقيقيّ هو من يستشعر أيّ تغيير في حالة الشريك فيحسّ به: يحسّ بفرحه ويشاطره إيّاه، أو يشعر بحزنه فيسأله عن السبب. ومن المهمّ أيضاً أن يتوصّل الأهل إلى مثل هذا الرباط مع أبنائهم، أي أن يشعروا بوقوعهم في أيّة صعوبة منذ اللحظات الأولى، حتّى يتمكّنوا من استدراك أيّ خطر يتعرّضون له.
6. وسؤال آخر: لماذا طلب زكريا لوحًا وكتب: "اسمه يوحنا"، ولم يكتفِ بإشارة من يده تأكيد لِما قالته إليصابات زوجته؟
كان بإمكان زكريا الأبكم أن يشير فقط إلى أليصابات ليدلّ على أنّ رأيه هو مثل رأيها في تسمية الصبيّ. إلاّ أنّه طلب لوحًا ليكتب عليه، جاعلاً منه دليلاً واضحًا وملموسًا على توافقه معها. أحسّ زكريّا بالإهانة لكيفيّة تعاطي هؤلاء مع زوجته. فأراد أن يصون كرامتها بكتابته الإسم بشكل لا يقبل الجدل. كما أنّ في اختياره لاسم يوحنّا طاعةً لله الذي اختار هو اسم الصبيّ. وبهذا يُظهر أيضًا للمحيطين به أن ما قالته أليصابات ليس سوى طاعة للربّ، وهذا دليل على قداستها. يرسم لنا زكريا صورة الرجل الشهم والمؤمن.
وما تعجّب الجماعة سوى دليل آخر على مدى بعدهم عن الدخول في دائرة النعمة الإلهيّة التي يحياها الزوجان الطاعنان في السنّ. إلا أنّ هذا التعجب هو نوع من صدمة أولى قادتهم للتأمّل بما يحدث فيتقرّبون بذلك من ينابيع الإيمان والنعمة. فالمؤمن الحقيقيّ مدعوّ للاستفاد من كلّ ظرف يمرّ به شخص محيط به لينقل إليه، من خلال المتغيرات اليوميّة، بشارة التدخّل الإلهيّ في حياة الشخص.
7. تجلّت رحمة الله مرّة ثانية من خلال المولود يوحنا. فما إن كتب زكريا "اسم يوحنا" حتى "انحلّت عقدة لسانه، وراح يتكلّم ويبارك الله" (لو1: 64). هو الله الرحوم يحقّق وعد رحمته. فكما قال لزكريا على لسان الملاك جبرائيل أنّه سيكون أبكم حتى تتمّ ولادة الطفل، هكذا أعاد إليه نطقه. وما كان منه إلّا أن رفع صلاة الشكر لله.
يعلّمنا زكريا ضرورة أن لا يُهمل المؤمن صلاة الشكر عن كلّ إنعامات الربّ. صلاة الشكر هذه تُفرح قلب الله. فهو يرانا نحن أبناءه متحلّقين حوله بفرح. ونشير إلى أنّ صلاة الشكر هذه لا يحتاجها الله بل نحن. من خلال الشكر يقرّ الإنسان بإنعامات الله عليه فيفرح قلبه ويزداد ثقةً بالعناية الإلهيّة. هذا الفرح يشكّل في حياته ضوءًا ينير ظلمة التجربة التي لا بدّ أن تحدث في أيّامنا. وهكذا، في لحظات الظلام الدامس، يستذكر المؤمن عطايا الله له ويتذكّر بالتالي الفرح الذي اختبره مع خالقه، فيتعزّى في ليله المظلم ويردّد مع صاحب المزامير: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ" (مز34: 8).
وأخيرًا، بصلاة الشكر والتسبيح هذه التي يقولها زكريا على مسامع الجيران، يقوم بدور آخر تبشيريّ تجاههم؛ إذ يدلّهم على طريق السعادة، التي هي التمسّك بوصايا الله ورسومه.
8. ماذا يعني أنّ "الخوف استولى على جميع جيرانهم؟" (لو1: 65)
يستعمل الكتاب المقدّس كلمة "خوف" بمعنيَين مختلفَين. الأول بالمعنى المعتاد، أي أن يخاف الشخص من شيء ما يسبب خطرًا على حياته، كخوفه من الحيوانات أو من النار أو من الأعداء. والثاني، وهو الأكثر استعمالاً، يعني أن "تخاف إلى" الله. أي أن نلتجئ إليه عندما يدهمنا خطر ما. المعنى المقصود في العبارة هنا هو أنّ الجيران رأوا مدى قدرة الله على حلّ معضلة زكريا وسارة المتنوّعة: العقم والتقدّم في السنّ والبكم والاتفاق التام بينهما على اسم الصبيّ. لذلك، أدرك الشعب أنّ الله جدير بالاتكال عليه، لأنّه القدير على فعل كلّ خير لمن يحبّه.
لقد تُرجم الخوف بمفهومه الذي أشرنا إليه، في أن الناس "راحوا يتحدّثون بكلّ هذه الأمور في كلّ جبل اليهودية" (لو1: 66). هذا يعني أنّ البشارة بدأت سريعًا بالانتشار. فالذين قبلوها هم أصبحوا المبشّرين بها. يقول بولس الرسول ان "الإيمان نار تتأجّج في قلب الإنسان". لذا لا يستطيع المؤمن أن يكتم البشرى التي بلغت إليه، بل يعلنها بغيرة وفرح من وهج النار المتأججة في قلبه. المؤمن الحقيقي هو بالضرورة مبشّر. وإعلان بشرى الإنجيل علامة واضحة تدلّ عليه.
انتشار البشرى في كلّ جبل اليهودية يعني أنّ الذين عرفوا بها، نشروها في محيطهم. كلّ واحد وواحدة منا مدعو ليكون رسولًا في مجتمعه، حيث هو: في البيت والمدرسة ومكان العمل والمجتمع ومؤسسات الدولة، مع الأهل والأصدقاء.
9. ونجحت الرسالة من كون "كلّ من سمع بذلك حفظه في قلبه قائلًا: ما عسى هذا الطفل أن يكون" (لو1: 66). كلمة الحياة فعّالة وفاعلة في كلّ القلوب. تثمر في القلوب المنفتحة على الله، والمهيّأة بالصلاة والتوبة. وقد شبّهها الربّ يسوع بالأرض الطيّبة التي تقبل حبّة الحنطة وتعطي الواحدة ثلاثين وستّين ومئة (راجع متى13: 8).
ويضيف لوقا في إنجيله: "وكانت يدُ الربّ معه" (الآية 66)، ليؤكّد أنّ الله حاضر في مشروعه الخلاصي، ويقود الإنسان والجماعة التي تعاونه في تحقيقه خطوة خطوة، ويزيل بقدرته المصاعب والعراقيل، ويشدّد العزائم، ويعزّي ويهدي.
ثانيًا، الإرشاد الرسولي: "فرح الحبّ"
ننقل من الفصل الثالث مفهوم سرّ الزواج (الفقرات 71-75).
1. في الزواج والعائلة تظهر صورة الله المطبوعة فيهما. في معمودية يسوع، سُمع صوت الآب الذي سمّاه ابنه الحبيب، وبحلول الروح القدس فوق رأسه ظهر حبُّ الآب لابنه (راجع مر1: 10-11). العائلة، على مثال الثالوث القدوس هي شركة أشخاص. يسوع، الذي صالح كلّ شيء، وافتدى الإنسان من خطيئته، أعاد الزواج والعائلة إلى صيغتهما الأصلية، بل أيضًا رفع الزواج إلى رتبة سرّ (sacrement) كعلامة لمحبته للكنيسة. وهكذا في العائلة، التي يجمعها المسيح، أُعيدت "صورة الثالوث القدّوس وشبهه" إذ منه يتفجّر كلّ حبّ حقيقي. من هذا المنظار يتقبّل الزواج والعائلة من المسيح نعمة الروح القدس، من أجل الشهادة لإنجيل محبة الله.
2. سرّ الزواج هبة لتقديس الزوجَين وخلاصهما. ففيما ينتمي واحدهما للآخر، إنّما يمثّلان حقًّا، عبر علامة السّر، علاقة المسيح بكنيسته. فالتشبيه القياسي: المسيح-الكنيسة والزوج-المرأة، ولو ناقص، يدعو الزوجَين ليلتمسا من الله أن يسكب حبّه على علاقتهما الزوجية.
ليس سرّ الزواج معاهدة اجتماعيّة، أو رتبة طقسيّة فارغة، أو مجرّد علامة خارجيّة للالتزام الزوجي. بل المسيح نفسه يأتي لملاقاة الزوجَين عبر نعمة السّر المقدّس: يبقى معهما ويعطيهما القوّة ليتبعاه حاملَين صليبهما، ولينهضا بعد السقطات، وليغفر الواحد للآخر، ويحمل أثقال الآخر.
3. الزواج دعوة لأنه يلبّي النداء الخاصّ لعيش الحبّ الزوجي كعلامة، ولو ناقصة، للحبّ القائم بين المسيح والكنيسة. وكونه دعوة يقتضي أن يأتي ثمرة تمييز لهذه الدعوة. والزواج ليس فقط علامة لعظم حب المسيح للكنيسة الذي مهره بدم العهد على الصليب، بل أيضًا يجعل هذا الحبّ حاضرًا في شركة حياتهما الزوجيّة.
قوام الدعوة إلى الزواج عطاء الذات المتبادل بشكل كامل، وقبول الآخر، والأمانة، والانفتاح على نقل الحياة البشرية. إنّه التزام متبادل يقطعانه أمام الله والكنيسة. إنّ اتّحادهما الجسدي، المعاش بشكل إنساني، والمقدَّس بنعمة السّر، هو بالمقابل طريق النموّ في حياة النعمة. إنّه "السّر الزوجي" (Mystère nuptial) كما يسمّيه القدّيس البابا لاون الكبير. من هذا المنظار يأخذ الجنس كلّ مفهومه وقيمته.
4. حياة الزوجَين المشتركة، وشبكة العلاقات التي ينسجانها مع أولادهما والمجتمع والعالم، تجد قوّتها في نعمة السّر المقدّس الذي ينبع من سرَّي التجسّد والفداء، حيث عبّر الله عن كامل حبّه للبشرية، واتّحد بها اتّحادًا عميقًا. فلن يكون الزوجان أبدًا متروكين لوحدهما، ومعتمدَين فقط على قواهما الشخصيّة لمواجهة التحديات الراهنة.
صلاة
أيّها الربّ يسوع، لقد أظهرتَ وجه الله الرحوم في شخص يوحنّا، لزكريا وإليصابات وللشعب كلّه. وكشفتَ أنّ فيك يكتمل تجسيد رحمة الآب. فيوحنا أعلنك كما الفجر يعلن قرب طلوع الشمس. اغمرْنا برحمتك، لكي ندرك غنى رحمة الله وكثرة عطاياه فينا وفي جميع الناس، ولكي نجسّد بدورنا في الأفعال هذه الرحمة النابعة من قلب الله. بارك الأزواج بنعمة السّر المقدّس، لكي يعيشوا بالأمانة دعوتهم الزوجيّة في الحبّ المقدس، وفي الشهادة لإنجيل الحبّ، وفي نقل الحياة البشرية. ساعدْهم بروحك القدّوس ليتجاوزوا صعوبات الحياة الزوجية والعائلية وتحدّياتها. وليرتفع من كلّ عائلة، ككنيسة بيتية نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي - التنشئة المسيحية للبطريرك الراعي.