نموذج العائلة المسيحيّة
مع التقدّم الحاليّ للمجتمع يتساءل البعض ألا يجب على الكنيسة أن تغيّر مفهومها للعائلة والّذي أوضحته في المجمع الفاتيكانيّ الثاني وفي الكتابات الكنسيّة المتعدّدة؟ هل يوجد بعد نموذج للعائلة المسيحيّة؟ ما الفائدة من المدافعة عن هذا النموذج في حين أنّ مطالبات المجتمعات الغربيّة والشّرقيّة تطال ليس فقط تكوين العائلة بل أيضاً الطرق المُتعدّدة للإنجاب وإمكانيّة الإمتناع عن الإنجاب أو إيقافه، والطفل الدواء والمرأة البديلة، إلخ. من هنا ضرورة طرح التساؤلات التالية: ما هو جوهريّ في هذا النموذج وما هو عرضيّ وبالتالي يمكن الإستغناء عنه؟ أليس للنموذج المسيحيّ للعائلة محدوديّته كمكان لعيش الحبّ والحنان؟ ألا يمكن أن تكون العائلة مكان تقوقع وإنزواء ورفض لشريعة الجماعة وقبول لشريعة الأنانيّة؟
نحن ندرك تماماً أنّ يسوع إحترم الزواج ووديمومته وكلّ الرباطات العائليّة وربطهم بغاية سامية: ملكوت الله الذي يحمي الكلّ من التقوقع. فالإنجيل لم يطرح نموذجاً واحداً من النّاحية الإجتماعيّة والتاريخيّة بل شدّد على كلّ ما يشجّع العطاء والخدمة والأمانة. لذا ركّز المجمع الفاتيكانيّ الثاني على الشّخص ككائن فريد مخلوق على صورة الله مُراد لذاته ولخيره.
ولكنّنا اليوم، خوفاً من أن نختار نموذجاً محدّداً للعائلة، نرى أنّ بعض المسيحيّين يتحاشون تحديد العائلة ويرفضون سرّ الزواج كيّ يؤسّسوا العائلة على البنوّة والإعتراف بالأولاد. مع العلم أنّ غياب الإلتزام بين الزوجين لن يمكّن الولد من إنشاء العائلة. فالولد بحاجة إلى إلتزام واتّحاد والديه ليكبر بكنف هذا الإتحاد. هذا الولد له الحقّ في أن يولد من أبّ وأمّ وينمو في كنف العائلة. هذا الولد لا يُصنع بل يُنتظر ويُستقبل. ولكنّنا نجد، على سبيل المثال، أنّ التقنيّات الإصطناعيّة للإنجاب، المرفوضة من الكنيسة الكاثوليكيّة، غيّرت من غاية وجودها. فبدل أن تكون فقط وسيلة للعناية بالأشخاص العاجزين عن الإنجاب أصبحت اليوم نموذجاً للإنجاب ليصبح الولد إنتاجاً لرغبة أهله مهما كلّف الثمن.
من هنا أعتقد أنّه لا يوجد نموذجاً تاريخيّاً للعائلة المسيحيّة لا يمكن تغيّره إنّما وجهاً مسيحيّاً للعائلة غير منفصل عن الدّعوة إلى القداسة. فالعائلة ليست فقط خليّة إجتماعيّة بل جماعة، كما قال المجمع الفاتيكانيّ، بشراكة مع كلّ أفرادها. إنّها كنيسة بيتيّة وجماعة المدعوّيين.
الحكم الأدبيّ
لا شكّ أنّ هناك تعاليم تخصّ العائلة ربّما نرفضها لأنّنا نعتقدها بعيدة عن الواقع اليوميّ ولا تجيب على التطلّعات. لا شكّ أنّ الحكم الأدبي معقّد جداً وهو بحالة تنوّع بحيث أنّ كلّ شخص ينادي بضمير خاصّ ولم نعد ندري إذا كان هناك من أسس مشتركة لمثل هذه القضايا المتشعّبة أخلاقيّاً.
فأمام التعدّديّة الموجودة اليوم في مجتمعاتنا وحتّى في عائلاتنا يصعب على البعض أن يكون لديهم حكماً أدبيّاً واحداً. كلّ شخص يقول أنّ حكمه جيّد ويعتمد على أسس أخلاقيّة باسم النسبيّة الأخلاقيّة. لذا نشهد اليوم بروز طرق أخرى للحكم على الأوضاع. بحيث لا نترك المجال الأكبر للتحليل وللتعقّل وإنمّا للمشاعر وللإختبارات. فلا مجال بعد الآن، إذا أردنا أن ندخل في حوار مع الجميع، أن نتغاضى عن التاريخ الشخصيّ للإنسان ومشاعره ورغباته. هل هذا يعني أنّنا نترك لكلّ إنسان الحريّة بإختيار قيمه ومبادئه وشرائعه بما يتناسب مع وضعه؟
لا شكّ أنّ الحوار بين كلّ الأفرقاء هو نقطة إيجابيّة منطلقها أنّ التعّدديّة والإختلاف في الآراء هما مشروع حياة. فكلّ مسيحيّ اليوم له الحقّ في أن يقول قناعاته بحريّة مع احترام الرّأي الآخر. فالحوار يُبلور الفكرة الأفضل فلا يعود هناك مجال للعنف أو للإستهتار بالآخر. في هذه الحالة أين يحصل الفرق في مقاربتنا للقضايا الأخلاقيّة؟ ليس علينا أن ننسى أنّ للمسيحيّ، على ضوء إيمانه المنوّر بالعقل، نظرة للإنسان ولدوره ولرسالته ولغايته. هذه النظرة ليست عابرة بل ناتجة عن خبرة مئات السّنين ولا بدّ أن تكون علامة فارقة في وقت ما من دون أن ننسى التطوّرات الحاصلة في مفهومنا للإنسان والّذي لا يُمكننا التغاضي عن قراءته إذا كنّا نحترمه.
هذه القدرة على الحوار الذي يُريح الجميع لا يستنفد الحوار الأخلاقيّ والأنتروبولوجيّ. لذا يمكننا أن نستمرّ بتفعيل التفكير حول نظرتنا للعالم ونتائج أعمالنا على حياة الجميع وخاصّة الضعفاء منّا. فالكنيسة اليوم، والتي تعبّر عن قناعات معيّنة، بحاجة، إضافة إلى الفكر والحوار، إلى الشهادة والإلتزام بخدمة القريب مغذّاة بالإيمان بيسوع.
إذا أخذنا على سبيل المثال وسائل منع الحمل. يشدّد البابا بولس السادس، في "الحياة البشريّة" على مبدأ عدم الفصل بين الحياة الجنسيّة والخصوبة. ولكن هذا الأمر لم يُقبل من كثيرين لأنّ الفصل بينهما أصبح مسلّماً به في المجتمعات وخيراً للإنسانيّة. إذا كان الكتاب المقدّس لا يتكلّم عن وسائل منع الحمل فإنّه يشدّد على أنّ الإخصاب هو عطيّة من الله يجب استقبالها بفرح وأنّ وصيّة المحبّة تنفي كلّ أنانيّة.
والملفت أنّ العلوم الإنسانيّة أثبتت جديّة هذا التّعليم وتراه يحمي من الإستعمال المُفرط لوسائل منع الحمل. فهذه الوسائل ليست بدون تأثير على العلاقة مع اللّذة ومع الحياة الجنسيّة، على العلاقة مع شريك(ة) الحياة ومع الأولاد المولودين أو المرغوبين في اللّاوعي، على العلاقة مع المجتمع والطبّ والحياة الشخصيّة ...إلخ. ربّما البعض، ممّن يرفضون هذا التّعليم، عندهم أراءهم المقنعة في هذا المجال ولكن يجب اللّجوء إلى التّمييز الأدبيّ والتّساؤل : إلى أيّ مدى هناك احترام لجسد المرأة؟ إلى أيّ مدى هناك حوار بين الرّجل والمرأة بما أنّ المسألة تخّصهما؟ إلى أيّ مدى تصبح العلاقات الجسديّة بين الزوجين بمستوى الإدمان؟ إلى أيّ مدى هذه الوسائل لا تقتل حياة ناشئة؟
إعتبر المجمع الفاتيكانيّ الثاني أنّ مسألة الإنجاب ليست فقط مسألة شخصيّة تخصّ العائلة، بل هي مسألة لها تأثيراتها على كلّ الحياة الإجتماعيّة والمدنيّة العامّة. إذا أخذنا على سبيل المثال المرأة البديلة الّتي تحمل ولداً لحساب الزوجين، نجد أنّنا نحاول أن نُعطي أهميّة للقضايا الخاصّة ونتغاضى عن حقوق الآخر وحريّته التي ركّز عليها المجمع. فالأمّ تقرّر مُسبقاً التخلّي عن حقّها بأن تكون أمّاً بعد أن تُنجب الولد بحيث تصبح البنوّة مسألة خاصّة.
ولكنّي أعتقد بأنّ الحقّ للطفل يجب أن يَغلب على الحقّ بالطفل وهذا ما نراه في مفهومنا للأمومة وللتبنّي وللبنوّة الّذين يجدّدون ارتباط العائلة بالنسيج الإجتماعيّ وما نراه أيضاً في تقديرنا للدّور الفرديّ والخاصّ للشّخص الذي لا ينفي كرامة وحقوق الآخر. فإذا تصرّفنا بعكس ذلك فإنّنا لا نؤسّس لمفهوم جديد للهبة بل للعنف الّذي نزيده على آلام الزّوجين العاجزين عن الإنجاب.
ركّز البابا يوحنّا بولس الثاني على أهميّة الأبحاث في مجال الطب بهدف الوقاية أو الشفاء أو تخفيف الألم. لم يبتعد عمّا قاله المجمع الفاتيكاني الثاني "إنّ البحث المنهجيّ في كلّ فرع من فروع المعرفة، لا يكون منافياً للإيمان، إن قاده الإنسان بطريقة علميّة صرفة مراعياً قواعد الأخلاق : فالحقائق الدنيويّة والحقائق الإيمانيّة لها مصدر واحد هو الله" (فرح ورجاء 36).
حرص البابا على أن يعمل الأطبّاء والعلماء على تنقية ضمائرهم وعلى التّمييز الواعي كي يروا بحكمة رهانات ونتائج التطوّر. فحضّهم على اليقظة كي لا تصبح كرامة الشّخص البشريّ، وهي كيانيّة وليست ظرفيّة، مرتهنة للمجتمع وللأشخاص المقرّبين من المريض. فالشّخص هو قيمة في ذاته بيسوع المسيح الذي بيّن للإنسان ماهيّته وعظم دعوته. (فرح ورجاء 22).
الأب شربل شلالا.