الكنيسة والعيلة (1)

متفرقات

الكنيسة والعيلة (1)

(1) الكنيسة والعيلة


مقدّمة

المجمع غير العادي المُنعقد حاليًّا في روما حول العائلة يندرج ولا شكّ في سياق مقرّرات المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني الّذي طرح تحدّيات العائلة المسيحيّة وكلّ المجامع اللّاحقة والذي يطرح بالتّأكيد تحدّيات جديدة.


هذه العائلة المدعوّة لتكون مركز حبّ بين أفرادها، مركز تعلّم للحبّ من خلال كلّ الأفراح والتّجارب والنجاحات والانكسارات الّتي تعيشها، هي أيضًا في مسيرة مستمرّة. لأنّ هذه الكنيسة البيتيّة ليست بمعزلٍ عن كلّ التجاذبات الّتي تعصف بالمجتمع والّتي تجعلها في جهاد مستمرّ. هذه العائلة المسيحيّة مدعوّة لتكون قوّة دفع تفكّر وتتناقش وتقترح وتواجه وتدعم. مع أنّها هي أيضًا بحاجة إلى دعم من الكنيسة المعلّمة لأنّها تشعر أحيانًا أنّها غير مفهومة بما يخصّ قضايا خلقيّة الحياة مثل وسائل منع الحمل والاخصاب الاصطناعيّ إلخ.


ولكن هل هذا يعني أنّ على الكنيسة أن تُغيّر بمفاهيمها؟ لا أعتقد. إنّما هي مدعوّة لتشرح أكثر تعليمها ولتوضّح أنّها ليست قوّة منع بل قوّة دفع من أجل أن تصير العائلة أكثر فعاليّة. فالكنيسة لا تريد فقط من أفراد العائلة أن يحدّدوا ماذا عليهم أن يفعلوا بل ماذا عليهم أن يصيروا ويكونوا.


العائلة في المجمع الفاتيكاني الثاني


كان المجمع الفاتيكانيّ الثاني، ولو سبقه مجامع أخرى كان لها وقعها في حياة الكنيسة مثل المجمع التريدنتينيّ والمجمع الفاتيكانيّ الأوّل، بمثابة البوصلة الّتي تسمح لقارب الكنيسة، وسط العواصف كما على المياه الهادئة، بالإبحار بأمان والوصول إلى الشاطئ الأمين. كان المجمع نداءً قويًّا لإعادة اكتشاف جمال الإيمان كلّ يوم ومعرفته بالعمق من أجل علاقة وطيدة مع الربّ لعيش الدّعوة المسيحيّة بعمقها. هذا ما قاله البابا بنديكتوس السّادس عشر في افتتاح سنة الإيمان وانعقاد المجمع حول الأنجلة الجديدة والاحتفالات بذكرى الخمسين لانعقاد المجمع الفاتيكانيّ الثاني في 11ت1 2012 أمام 20،000 مؤمن في ساحة مار بطرس.


لا شكّ أنّ الأجيال الجديدة لم تُدرك مدى التحوّل الكبير الّذي أحدثه هذا المجمع في طريقة صلاتنا واحتفالاتنا ومقارنتنا لكلمة الله وللوحيّ الإلهيّ ورسالة الكهنة والأساقفة في عالم لا يزال في تحوّل كبير على جميع المستويات وإلى ما ذلك من مواضيع تخصّ العلاقة مع الأديان وغيرها. ما يهمّنا هو العلاقة مع العالم وهذا ما شدّد عليه فرح ورجاء محدِثاً تحوّلاً كبيرًا بعلاقة الكنيسة بالمجتمع. فنجد تأثّرًا بالفلسفة الشخصانيّة مع Mounier, Maritain et Guitton وتركيزًا على أنّ جهد الإنسان لتحسين إنسانيّته يتوافق مع تدبير الله. فأصبحت الكنيسة تسير مع الإنسانيّة وتتعلّم أن تفهم الواقع الإجتماعيّ للتاريخ وتغتني من هذه الحياة الإجتماعيّة.


إنّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني هو نداء قويّ لإعادة اكتشاف جمال الإيمان كلّ يوم ومعرفته بالعمق من أجل علاقة وطيدة مع الربّ من أجل عيش دعوتنا المسيحيّة بعمقها. لذا شدّد المجمع، ومن بعده كلّ الباباوات وبخاصّة البابا بولس الثاني، على أنّ العائلة هي أساس ثمين للبيئة البشريّة وهي خليّة أساسيّة في كلّ مجتمع. وهي مكان التنشئة على الخير العامّ وعلى القيم. فيتعلّم الولد من عائلته القيم الأساسيّة في الوجود مثل الحبّ والاحترام وهمّ الآخر والحريّة وعطاء الذات ومعرفة نِعم الله. كما يتابع الكبار تمرّسهم على الروابط العائليّة وعلى الاعتراف بالآخر بحكمة وبمسؤوليّة.


بقي الدستور الرعويّ في الكنيسة وعالم اليوم: فرح الرّجاء (47-52) الأساس لكلّ الكتابات المستقبليّة من "الحياة البشريّة" (1968) إلى "وظائف العائلة المسيحيّة" (1981) إلى "الحياة هبة الله" (1987)، إلى إنجيل الحياة (1995). وإلى آخرها "كرامة الشخص البشريّ" (2008). إستندت كلّ هذه الكتابات على المجمع لتعالج بالعمق قضايا أخلاقيّات الحياة في عائلاتنا المسيحيّة. إضافة إليها كان هناك الكثير من الرسائل والمُداخلات عن العائلة وتحدّياتها منها شُرعة حقوق العائلة (1983) ورسالة إلى العائلة (1994).


إعتقد الكثيرون بأنّ الدّستور الرّاعويّ في الكنيسة وعالم اليوم (فرح ورجاء) هو رعائيّ وليس عقائديّ. يعني أنّه غير ملزم للأشخاص خاصة ً في ما يتعلّق بالعائلة وبالزواج. ولكن لا يوجد في فكر آباء المجمع كنيستين: العقيدة والرعائيّات. لذا كان هناك ارتباط بين هذا الدّستور ودستور عقائديّ في الكنيسة (نور الأمم). إنّ الكنيسة والعائلة مرتبطتان بعضهما ببعضٍ من خلال إشتراكهما بالسرّ نفسه: الوحي الإلهيّ في التاريخ. بمعنى أنّ الكنيسة تُحقّق رسالتها من خلال بناء العائلة. فهذه الأخيرة هي طريق الكنيسة كما قال يوحنّا بولس الثاني. لذا للكنيسة وللعائلة رسالة مُشتركة تستند إلى الفداء الإلهيّ. فالعائلة هي كنيسة بيتيّة من أجل أن تُظهر ما هو زوجيّ ووالديّ وبنويّ بعلاقة شراكة حياة.


إعتقد البعض بأنّ الكنيسة كانت متفائلة في صياغة هذا الدّستور بالنسبة إلى عالم اليوم. إنّ الكنيسة وعت التحوّلات الجارية في العالم وتأثيراتها على حياة مؤمنيها فتكلّمت عن طور جديد في تاريخ الجنس البشريّ ورأت أنّ هناك تحوّلات عميقة وسريعة وتبديل جذريّ حقيقيّ اجتماعيّ وثقافيّ سينعكس حتمًا على الحياة الدينيّة (فرح ورجاء 4/2).


صحيح أنّ المجمع لم يُجب بطريقة واضحة على معضلات كثيرة تطال الحياة العائليّة، إنّما وضع بشكلٍ واضح الإصبع على الجرح رغم التفاؤل الّذي ذكرناه. فالعالم الحديث يبدو قوّيًّا وضعيفًا في آن يستطيع أن يُقدّم الأحسن والأردأ. كما أنّ طريق الحريّة وطريق الاستعباد مفتوحتان أمامه كما طريق التقدّم والتقهقر وطريق الأخوّة والبغض (فرح ورجاء 9/4). حاولت الكنيسة أن تتفحّص في كلّ آن علامات الأزمنة وتفسّرها على ضوء الإنجيل لتستطيع أن تجيب قدر الإمكان على أسئلة الناس الدّائمة حول معنى الحياة الحاضرة والمستقبليّة وحول العلاقات القائمة بينهما (فرح ورجاء 4/1).


ما المشكلة ؟


تواجه عائلاتنا اليوم تحدّيات كثيرة في كلّ الإتّجاهات. فهي محتاجة إلى استنارة من الكنيسة تساعدها على فهم تعقيدات ما يُطرح من مسائل خلقيّة تطال حياتها. تعتقد عائلاتنا اليوم أنّ المسيح كان أكثر قساوة في قضايا المال منها في قضايا الحياة الجنسيّة والأخلاق الحياتيّة. فكيف السّبيل للإجابة عن هذه القضايا دون النّظر بعمق إلى قانون التدرّج الّذي طرحه البابا يوحنّا بولس الثاني والّذي لم يُعمل به تمامًا.


ألا يُمكن أن نجد مسيحيّين ملتزمين ومحبّين لكنيستهم، يأخذون الوقت ليتفاعلوا مع ما تقوله الكنيسة في مسائل الأخلاق الحياتيّة ويبقوا منفتحين على عمل الرّوح في حياتهم؟(1) تشعر عائلاتنا أنّها بحاجة إلى دعم دائم لأنّها غير قادرة اليوم على مواجهة التحدّيات الأخلاقيّة في مجال الطبّ دون أن تصطدم مع المجتمع الّذي يعتبر أنّ القوانين تتطوّر مع نموّ المجتمعات وأن لا سبيل للتمسّك بشدّة بقوانين كنسيّة لا تجني إلاّ العذاب والقهر والتقوقع.


إنّ تعليم الكنيسة الكاثوليكيّ في مجال الأخلاق بنظر الكثير من المسيحيّين مثاليّ ولا يُلاقي دائماً الواقع، وأنّ الكنيسة تريد أن تنقل تعليمًا هي ليست مقتنعة به. والذين يوجّهون إنتقاداتهم اليوم هم بعض الأشخاص المتقدّمين بالعمر الّذين يعتقدون أحيانًا أنّ الكنيسة لم تفهم معاناتهم. في حين أنّ قسمًا من الشّبيبة اليوم غير مبالٍ والقسم الآخر بين رافض وقابل. فتُجيب الكنيسة أنّها تريد أن تنقل تعليم يسوع لا أن تقوله بحسب رغبات هذا أو ذاك. أعتقد أنّه ليس علينا أن نحصر تعليم الكنيسة فقط بمجموعة القواعد الّتي يجب احترامها. فماذا نعرف مثلاً عن لاهوت الجسد، عن قيمة الحياة، عن قيمة الشّخص البشريّ و كرامته و حقوقه ........ ؟


ما قاله البابا فرنسيس في افتتاح اجتماع الكرادلة في شباط 2014 يدلّ على مدى أهميّة دور العائلة في مواجهة تحدّيات المجتمع الحالي: "لذا ماهو مطلوب من كلّ المسؤولين في الكنيسة أن يعرفوا كم هو جميل وحقيقيّ وجيّد إنشاء عائلة وهذا ضروريّ وأساسيّ لحياة العالم ولمستقبل الإنسانيّة. كما هو مطلوب مرافقة العائلة في كلّ حقوقها اليوميّة ومساعدة الزّوجين على عيش مشروع الله للعائلة بفرح". من الضروريّ إذاً قراءة علامات الأزمنة كما حصل في المجمع الفاتيكانيّ الثاني ومرافقة العائلات وجعلها تكبر وتنمو وهذا يأتي بسياق دعوة البابا إلى راعويّة عائليّة شجاعة وذكيّة وملأى بالحبّ.


أرى من الضروري، كما أشار اللّاهوتيّ والتر كاسبر في لقاء الكرادلة، إلى أهميّة تدرّج لا القانون بل فهم الشريعة الّتي تتطلّب وقتًا ومرافقة.

إنّه من الضروريّ الدفاع عن العائلة والزواج وحقوق الطفل  دون أن نتجاهل بأنّ العائلة اليوم، التي لم تعد تمامًا كما يصوّرها التقليد الكنسيّ والمجمع، يعاد النّظر إليها من خلال نظريات أنتروبولوجيّة جديدة تربط الشّخص فقط بكليشيهات اللّذة الحرّة والفرح العابر ومن خلال حياة جنسيّة حرّة وغير مقيّدة.


لذا يحمل البعض مِمن يرفضون التّعليم الكنسيّ على فكرة الشّراكة والتضامن والأخوّة والانفتاح على الحياة وعلى أخرويّة الغير الأبّ والأمّ والأخ والصديق وحتّى على كلّ ما يؤسّس للعائلة ألاّ هو الرّجل والمرأة أوّلاً قبل إنجاب البنين. ممّا يدفع اليوم الكثير من المسيحيّين خاصّة ً إلى التّساؤل حول معنى العائلة والحياة الجنسيّة وحول ضرورة إبقاء الزواج الإطار الوحيد لعيش حياة جنسيّة مسؤولة مُرادة ومُباركة من الله وحول ضرورة إبقاء العائلة مكان عطاء وثقة وحبّ وصداقة وشراكة.



(1) - إنّ قانون التدرّج يلقى صدىً في المجال الرّوحيّ. فهناك لا شكّ رباطٌ مهمٌّ بين الحياة الأخلاقيّة والحياة الرّوحيّة. فقد عمد سعيد الذّكر الكاردينال لوستيجي إلى برهنة الطريقة التربويّة التي اتّبعها الله مع شعبه فقال إنّ التدرّج يحمل معانٍ كثيرة من بينها، وأهمّها، الطريق الذي يطلب الله من شعبه أن يسلكها؛ طريق النموّ الشخصيّ والجماعيّ بأمانة ومثابرة بنعمة الله. لا شكّ أنّ الإنسان التاريخيّ مدعوّ إلى الدّخول في منهجيّة التمثّل بالله ليصبح إنسانًا كاملاً كما أنّ الله كامل هو (متى5، 48).  إنّ الدعوة إلى القداسة واضحة ولا مجال للمساومة عليها. فلا يوجد تدرّج في النداء. هذه الراديكاليّة في النداء تؤسّس بدورها لقانون التدرّج في عمليّة التوبة والرّجوع إلى المسيح، صورة الآب الأزلي. عليّ  كوني مؤمنًا أن أبقى منفتحًا على ما تقوله الكنيسة حول وسائل منع الحمل وأن أترك المجال لأفهم هذا التّعليم الذي ليس مجرّد مُمانعة عصبيّة غير منطقيّة. إذا لم أقدر أن أحقّق ما تقوله الكنيسة عليّ أن أتابع سعيي. من هنا ضرورة وجود ديناميكيّة تهدف إلى جعلي أبحث عن الطّرق المناسبة والمفيدة الممكنة لحياة أفضل آخذًا  بالإعتبار كلّ العوامل البشريّة والروحيّة المحاطة فيّ. هنا يأتي دور الضمير الأخلاقيّ ليضع موضع التنفيذ قانون التدرّج. فهذا الصّوت الداخليّ وهذه القدرة على الحكم على الأفعال يجعلان من الإنسان قادرًا على أنسنة الإنسانيّة. فالضمير الواعي المُستقيم يسهر على أن يبقى مضطلعًا بالحوار والقراءة والصّلاة وأن يقرّر العمل الواجب القيام به ويسهر على مراقبة نتائج قراءة ثماره. على الشّخص أن يعيد المحاولة في كلّ وقت كي لا يتكاسل الضمير ويتراخى وكي يبقى في بحث مستمرّ عن كلّ ما هو نافع لحياته ولمساره الإنسانيّ الشخصيّ  والجماعيّ.  


الخوري شربل شلالا.