صرخة رجاء تبدأ على فمّ النبيّ أشعيا: "الله يأتي ليخلّصنا" (أش4/35-7). والله لا يقوم بالأمور مناصفة إن صحّ التّعبير، يقول أشعيا: "تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكم". بمعنى آخر، البشريّة ستُرَمّم بمجملها. ويمكن للحياة أن تنبعث من جديد وبوفرة: سوف تسقي صحارى وجودنا وتتدفّق كالسيل، لتشبع أراضينا.
من الجيّد لنا سماع هذه الكلمات في الظّروف التي نعيش فيها الكثير من الخوف والقلق دون التحدّث عن الروتين الذي يكبّلنا ويمنعنا من القيام بإنطلاقات جديدة. كما أنّها تتطلّب منّا الإعتياد على هذا الخوف والإستسلام له، مع كل المجهول الذي يُحيط بنا في هذه الأيّام.
لكنَّ الأهمّ هو أنّ أشعيا يتحدّث عن الصّحراء التي تسقيها كلمة الله. ألا نعيش اليوم صحارى هائلة في أعماقنا، صحارى عقيمة ومُمانعة للكلمة بشكلٍ عامّ ولكلمة الله بشكل خاصّ؟ الإصغاء لا وجود له، والكلمة أصبحت صوت صارخٍ في البرّيّة.
كيف يمكن استقبال وقطاف ثمرة هذا الوعد، إنجيل مرقس (مر 31/7-37) يساعدنا على الجواب. وصف الإنجيليّ مرقس الدّقيق لتنقّلات يسوع عبر مدن متعدّدة والوصول إلى المدن العشر ليس من باب الصدفة. فالمدن العشر معتبرة من قبل اليهود على أنّها منطقة غريبة، وثنيّة، والعبور إلى الطرف الآخر من الأردن، كما فعل يسوع هنا، يعني ترك أرض الميعاد، أرض الإيمان، للغوص في قلب أرض غريبة، أرض الإلحاد.
مبدئيّاً، سكّان المدن العشر بما أنّهم وثنيّون فهم غير منفتحين على كلمة الله؛ وعاجزين عن الإعتراف به لما هو عليه ليمجّدوه، لا يستطيعون سماع كلمته. بينما شعب العهد القديم فهو على العكس، مبنيّ على الكلمة التي استقبلها، إنّه شعب التّمجيد والتّسبيح. ويسوع يأتي ليُبين بأنّ الأمور ليست بهذا الوضوح وبهذه السّهولة.
فالمعجزة التي يُحقّـقها تُظهر انفتاح الوثنيّين على الإيمان. ولكنّه يقول أيضاً أنّه في اللّحظة التي يُغلق فيها اليهود آذانهم على رسالته، يكون للوثنيّين أحياناً آذان أكثر دقّة ونعومة وقلباً أكثر استعداداً لاستقبال الكلمة، ورغبة في الإصغاء ويتحدثون بشكل أفضلٍ من الذين يدّعون المعرفة ولا يعرفوا الإصغاء.
"فجاؤوه بأصمّ معقود اللّسان"، إنّه صورة عن البشريّة المجروحة، التي لا تُصغي إلى صوت الله وصوت الآخرين والإجابة عليهم. كيف يتصرّف يسوع؟ ينفرد به عن الجموع. ويدعوه للقاء شخصيّ، وجهاً لوجه، ليُعيد إليه إمكانيّة الاتّصال فيدخل مجدداً في الحياة.
بطريقةٍ ما، يمكننا القول بأنّ شفاء هذا الأصمّ الأخرس هو معجزة إلى حدّ ٍ ما مُذهلة كما هو حال قيامة المسيح: هذه الأخيرة تمّت أيضاً بعيداً عن عيون الفضول. القائم من بين الأموات لن يكون مرئيًّا إلاَّ لعيون إيمان الذين سمعوه يقول: "إنفتح"؛ إنفتح لا على روح العالم العطشان للعجائب وللمدهش، كما هو حال المُحيطين بالأصمّ الأخرس، بل إنفتح على الرّوح الآتي من الله، على مَن منه تأتي الحياة.
يجعل يسوع من هذا اللّقاء وجهاً لوجه، لقاء حميميّ لدرجة أنّه يجول بأصبعه على الأماكن المحدّدة، حيث الكلمة تتألّم في الجسد: الأذنين واللّسان. وفي اللّحظة التي يتمّ فيها علاقة شخصيّة جدّاً وجسدية، يرفع يسوع عينيه إلى السّماء ويتنهد "يئنّ". إنّها الكلمة عينها يستعملها بولس في رسالته إلى أهل رومة الفصل 8(رو 8/ 22 ): "أنَّ الخَليقةَ جَمْعاءَ تَئِنُّ إِلى اليَومِ مِن آلامِ المَخاض".
ينظر يسوع إلى السّماء؛ ولم يغْص بنظره في نظر الأصمّ. على العكس يفتحه على مساحة أُخرى، على علاقة أُخرى. إنّها دعوة تجاه الآب، باتّجاه مكان الأصل. وبولس يقول: "الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف"(رو 8/ 26). يلتحق يسوع في ما هو أعمق لدى هذا الإنسان والذي يبحث ليعبّر عن ذاته، الرّوح القدس الذي يدفعه نحو الحياة.
أخيراً يوصي يسوع بألّا يُخبروا أحداً بذلك. لماذا؟ لأنّه لا يُريد أن يقولوا أيّ كلامٍ عنه. لأنّ معجزات يسوع لا تتحدث أوّلاً عن قدرته بقدر ما تتحدث عن رسالته. لم يأتِ ليشفي طبلة أذن أو أذن داخليّة. إنّه أتى ليشفي صميم القلوب. بشفائه للأصمّ، يريد يسوع أيضاً أن نفهم بأنّه هو من ننتظر، المسيح الموعود من الله. والمُعلن عنه من قبل النبيّ أشعيا. ولكن مسيحاً لا يمكن الإعتراف به واستقباله إلاَّ في حقيقتنا وحقيقة الله.
هنا نحن أمام سرّ الفداء، سرّ التّضامن والشّغف، ما يشكّل أسلوب المسيح: إنّه يُعطينا قوّته بأخذه على عاتقه لخطايانا حتى الموت. "ما كان في العالم من ضعف فذاك ما اختاره الله ليخزي ما كان قويا" (1 قور 1، 27). وهذا ما يُذكّرنا به القديس يعقوب في رسالته: "أَلَيسَ اللهُ اختارَ الفُقَراءَ في نَظَرِ النَّاس فجَعَلَهم أَغنِياءَ بِالإِيمان ووَرَثةً لِلمَلَكوتِ الذي وَعَدَ بِه مَن يُحِبُّونَه؟" (يع 2، 5).
علينا ألّا نقلق لضعفنا: فإذا وضعناه بين يدي الرّبّ، فإنه لا يُبعدنا عنه أبداً، بل يُصبح على العكس مكان ظهور حبّه لكلّ واحدٍ وواحدة منّا، ومكان مُميّز لانتشار قوّته. فلنقدّم لله حياتنا في هذه الظّروف الحرجة لكي يفتح كلّ ما هو مُغلق ويحلَّ ما هو ليس حرًّا. ليفتحنا على الكلمة ويجعلنا أكثر حيويّةً وحياة.
بقلم الأب رامي الياس اليسوعيّ