إلى الكهنة الأعزّاء
يوم الصّلاة العالميّ لتقديس الكهنة هو مناسبة لنفكّر فيها معًا في الهبة التي وهبنا إيّاها الله، أي خدمتنا الكهنوتيّة. هي مناسبة نستمع فيها إلى همومكم الرعويّة في خدمتكم لجميع المؤمنين بل للبشريّة كلِّها، ولا سيّما للقسم الخاصّ من شعب الله الموكول إلى الرّعاة الأساقفة المختلفين، وأنتم أغلى المعاونين لهم وأهمّهم.
موضوع تأمّلنا هو "الكاهن تغذِّيه كلمة الله يَشهَدُ في الكون كلِّه لمحبّة المسيح". وهو موضوع ينسجم مع تعليم قداسة البابا بندكتس السّادس عشر، والذي بيَّنه بصورة خاصّة في الإرشاد الرسوليّ المنشور بعد السينودس بعنوان "سرّ المحبّة" (22/2/2007): "لا نقدر أن نبقي لنا وحدنا الحبَّ الذي نحتفل به في السرّ. لأنّ الحبَّ من طبيعته يفيض على الجميع. ما يحتاج إليه العالم هو حبُّ الله، واللقاءُ مع المسيح والإيمان به. ولهذا ليست الإفخارستيّا ينبوعَ حياة الكنيسة وقِمّتها وحسب، بل هي أيضًا ينبوعُ وقِمّةُ رسالتها: "الكنيسة التي تتغذى حقًّا بالإفخارستيّا هي كنيسة إرساليّة" (التوصية 42)، (رقم 84).
1. رجل الله هو رجل الرِّسالة
الرِّسالة الجوهريّة للكاهن هي أن يقدِّم الله للناس. وقد جُعِلَ في خدمته المقدّسة قادرًا على حمل الرّسالة، لأن الله اختاره، وأصبح يعيش مع الله وفيه وله. لمّا عقد المؤتمر الخامس لمجلس الأساقفة في أمريكا اللاتينية والكراييب في 13/5/2007 حول موضوع: "تلاميذ ورسل ليسوع المسيح، حتّى تكون فيه الحياة لشعوبنا"، قال قداسة البابا في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر، موجِّها كلامه إلى الكهنة: "أوَّل من يعمل على تثبيت مفهومَيْ "التلمذة والرّسالة" هم الكهنة أنفسهم الذين دعاهم الله "ليكونوا مع يسوع وليُرسِلَهم يسوعُ لحمل البشارة" (مرقس 3: 14)...
على الكاهن أن يكون قبل كلّ شيء "رجل الله" (1 طيموتاوس 6: 11) يعرف الله معرفة مباشرة، وتربطه بيسوع صداقة شخصيّة عميقة، ليوصِّلَ إلى الآخرين "ما في المسيح يسوع من مشاعر" (فيليبي 2: 5). هكذا فقط، يقدر الكاهن أن يُرشد الناس إلى الله المتجسِّد في يسوع المسيح، ويمكنه أن يكون ممثِّلا لحبّه بينهم" (رقم 5).
لقد عبَّرت عن هذه الحقيقة آيةٌ في أحد المزامير الكهنوتيّة، وقد كانت في الماضي جزءًا من رتبة القبول في مصافّ الإكليروس: "الرّبّ كأسي وحصّة ميراثي: أنت الضامن لنصيبي" (مزمور 16: 5). ونعرف من تثنية الاشتراع (راجع 10: 9) أنّه من بعد دخول أرض الميعاد، كانت كلّ قبيلة تتملَّكُ قسمًا من الأرض من طريق القرعة، وَفقـًا لوعد الله لإبراهيم. أمّا قبيلة لاوي، وحدها، فلم تكن لتتملّك أي أرض، لأنّ الله نفسَه كان نصيبها وأرضها.
ولهذا سبب واضح وواقعيّ: وهو أنّ الكهنة لم يكونوا يعيشون مثل سائر القبائل من فلاحة الأرض بل من التقادم. وآية المزمور إنّما هي علامة ورمز لواقع أعمق، وهو أنّ أساس حياة الكاهن الصحيح، وأرضه وكيانه وحياته، هو الله نفسه. وقد رأت الكنيسة في هذا التفسير لواقعٍ في العهد القديم تفسيرًا لما تعنيه رسالة الكاهن الذي يتبع الرّسل اليوم ويعيش متَّحدا مع يسوع المسيح نفسه.
قال البابا بندكتس 16 بهذا الخصوص: "الكاهن يقدر ويجب أن يقول اليوم مع اللاوي: "الرّبّ كأسي وحصّة ميراثي". الله نفسه هو حصّتي في الأرض والأساس الداخليّ والخارجيّ لكياني. هذه المركزيّة في حضور الله في كيان الكاهن تزداد أهميّتها، ولا بدَّ من توضيحها والتركيز عليها، ولا سيّما في مجتمعاتنا المؤسَّسة على مقوِّماتٍ نفعية قابلةٍ للتدقيق والمحاسبة.
على الكاهن أن يعرف معرفة تنطلق من صميم ذات الله وتتحوّل إلى خبرة يعيشها، ومن ثم يقدر أن يوصِّلها إلى الناس. هذه هي الخدمة الأولى التي تحتاج إليها البشريّة اليوم" (خطاب إلى الكوريا الرومانية في عيد الميلاد في 22/12/2006).
إذا فُقِدَت هذه المركزيّة الإلهيّة في حياة الكاهن لم يبقَ أيُّ أساس للعمل الرعويّ. ومع الإفراط في النشاط هناك خطر لفقدان المضمون الحقيقيّ والمعنى الصحيح للخدمة الرعويّة. وقد تنشأ إذّاك تحريفات كثيرة، وتحِلُّ أمور ثانوية محلَّ الجوهر، ويغدو الكاهن كمن يركض ويلهث عبثًا من غير أن يتقدّم.
هؤلاء الذين تعلَّموا "أن يبقوْا مع المسيح" هم وحدَهم المستعدُّون حقًّا لكي يكونوا رُسل البشارة (مرقس 3: 14). وسرّ قناعتهم بالبشارة التي يحملونها يكمُن في حبَّهم المتَّقدِ للمسيح. لما كان القديس أوغسطينس يحثُّ الكهنة على أن يكونوا تلاميذ في مدرسة المعلِّم الإلهيّ ليتعلَّموا منه كيف يصلُّون، كان يقول لهم: "كونوا رجال صلاة قبل أن تكونوا رجال البشارة" (التعليم المسيحي 4،15،32: ص 34، 100).
يقول القدّيس بولس إنّ "محبّة المسيح تدفعنا" (2 قورنتس 5: 14). ويقول القدّيس أوغسطينس: "إنْ أردت أن تحِبَّ المسيح فاشمَلْ بحبِّك الأرض كلَّها، لأنّ أعضاء المسيح هم في العالم بأسره" (في رسالة يوحنّا الأولى 10: 5).
كلّ كاهن يجب أن يكون ممتلئًا بروح إرساليّة وبروح "كاثوليكيّة" حقـَّة، "فينطلق من المسيح" ليتوجَّه إلى الجميع متذكِّرًا قول السيّد المسيح مخلِّصِنا: "إنه يريد أن يَخلُصَ جميع الناس ويبلغوا معرفة الحقيقة" (1 طيموتاوس 2: 4-6).
الكاهن مدعوٌّ إلى لقاء المسيح في الصَّلاة وإلى معرفته وحبِّه على درب الصَّليب أيضًا، وهي دربُ خدمةِ المحبّة الجادَّة والمتفانية. هكذا يشهد ويبرهن على حقيقة حبِّه لله ويعكس على الجميع نورَ وجه المسيح الرَّحيم.
قال القدّيس كيرلس الإسكندريّ: "بهاء هذه الصورة تَشِعُّ فينا نحن الذين نعيش في المسيح عندما نبرهن بأعمالنا أنّنا أناسٌ صالحون" (إلى طيباريوس الشماس ورفيقه، الجزء الثاني، في إنجيل القدّيس يوحنّا).
2. الكاهن شاهد صادق لمحبّة المسيح في المجتمع إنّ الرّسالة التي يتسلَّمها الكاهن في الرِّسامة الكهنوتيّة ليست عنصرًا خارجيًّا مضافًا إلى التكريس، بل هي هدف التكريس الأساسيّ والحيوي: "هدف التكريس هو الرّسالة" (أعطيكم رعاة، 24). "حبّ الله وحبّ القريب مترابطان: نرى يسوع في أصغر الناس، وفي يسوع نفسه نرى الله" (الله محبّة، 15).
الإفخارستيّا هي كنـز الكنيسة الذي لا يفنى. وفيها، إذا كنّا خدّاما أسخياء لخبز الحياة الأبديّة، نحن مدعوُّون إلى أن نتأمّل دائمًا في بهاء سرّ محبّة المسيح وعمقه، لنوصِّل دفقَ قلبِه المليءِ حبًّا إلى جميع الناس من غير تمييز، ولا سيّما إلى الفقراء والضّعفاء وإلى أفقر الفقراء أي الخطأة، وذلك من خلال خِدمةٍ ومحبّة مستمرَّة ومتواضعة وغالباً ما تكون أيضًا خفيّة.
الدفع الإرساليّ هو من العناصر الأساسيّة للإفخارستيّا في حياة الكاهن. قال قداسة البابا: "الرّسالة الأولى والأساسيّة الناجمة عن خدمتنا للأسرار المقدّسة التي نحتفل بها هي الشهادة بحياتنا. الإندهاش أمام هبة الله التي منحنا إيّاها في المسيح تطبع في حياتنا طاقة جديدة تحملنا على أن نكون شهودًا لحبِّه. ونكون شهودًا عندما يظهر فينا من خلال أعمالنا وأقوالنا ومواقفنا "شخص آخر" يظهر فينا وينعكس نوره على الآخرين" (سر المحبّة، 85).
الكاهن مدعوٌّ إلى "أن يكون هو نفسه الخبز الذي يُكسَر" لحياة العالم، وأن يخدم الجميع بمحبّة المسيح الذي "أحبّنا حتى النهاية": هكذا تكون الإفخارستيا في حياة الكاهن ما تعنيه فعلاً عندما نحتفل بها.
ذبيحة المسيح هي سرّ وطاقة للتحرير، وهي تتحدّانا دائمًا وتستحثُّنا للعمل. ولهذا يجب أن يعمل كلّ كاهن للعدل والتضامن بين الناس: يجب أن يشهد للمسيح نفسه أمام الناس، هذه هي دعوته. يتغذَّى الكاهن بكلمة الحياة، ومن ثم لا يقدر أن يبقى على هامش الصراع الذي عليه أن يدافع فيه عن كرامة الإنسان، فينادي بها وبحقوقه العامّة والتي لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها.
قال البابا بندكتس السّادس عشر: "بقوّة السرّ الذي نحتفل به يجب أن نندِّد بالظروف التي تنقض كرامة الإنسان الذي من أجله سفك المسيح دمه، فنؤكِّد بذلك على القيمة السّامية لكلّ إنسان ولكلّ فرد" (89).
وسنكتشف أيضًا المعنى الحقيقيّ لمكانة الحبّ وللمحبّة الرعويّة التي يكلّمنا عليها القدّيس أوغسطينس (في إنجيل يوحنّا 123: 5:36 ، 678): تريد الكنيسة عروس المسيح أن يحبّها الكاهن حبًّا كلّيَّا شاملاً كما أحبّها المسيح رأسها وعروسها. وهنا ندرك الأصول اللاهوتية للقانون الكنسيّ في البتوليّة المعمول به في الكنيسة اللاتينيّة، وارتباطه العميق بالرّسامة المقدّسة: هي هبة من الله لا تُثمَّن، هي مشاركة فريدة في أُبوَّة الله وخِصبِ الكنيسة، وهي طاقة إرساليّة كبيرة، وحبٌّ أعظم وشهادة أمام العالم للملكوت القادم.
فالبتوليّة، حين يقبلها الكاهن بقرار حرٍّ ومُحِبّ، تصبح هبة الذات في المسيح ومعه للكنيسة، وتعبِّر عن خدمة الكاهن للكنيسة في الرّبّ ومعه (الفاتيكاني الثاني، القرار في الكهنة، 16؛ ويوحنّا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، 29).
ويمكن أن نتساءل: ما هي المجالات التي يشهد فيها الكاهن لمحبّة لمسيح؟
ا) أولاً الرّسالة والبشارة والتّعليم، تعليم الشباب والبالغين، القريبين والبعيدين. به نسلِّم بصورة واضحة وكاملة رسالة المسيح. في الأيّام الحاضرة أصبح من المُلِحِّ أن نعرف إيماننا معرفة كاملة، بحسب ما جاء في تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة والملخَّص الذي تلاه.
يجب ألا نألوا جهدًا في البحث عن المؤمنين الذين ابتعدوا والذين لا يعرفون المسيح أو لا يعرفونه إلّا قليلاً. قال البابا بندكتس السادس عشر في خطابه لأساقفة البرازيل: "التربية على الفضائل الشخصيّة والإجتماعيّة والمسؤوليّة الإجتماعيّة بحسب تعليم الكنيسة هي جزء أساسيّ من التّعليم المسيحيّ...
يجب أن نكون خدّامًا أمناء للكلمة، من دون رؤى تُقزِّم الأمور، ومن دون خَلطٍ في الرّسالة التي وُكِلَت إلينا. لا يكفي أن ننظر إلى الواقع من خلال إيماننا الفرديّ. يجب أن نعمل في المجتمع ونحن حاملون الإنجيل في يدنا، لنرسِّخَ إيماننا في التراث الحقّ للتقليد الرسوليّ، من غير تفسيرات أيديولوجيّة عقليّة" (خطاب في لقاء صلاة المساء مع أساقفة البرازيل، 11/5/2007، رقم 4-5).
في هذا المجال لا تكفي الوسائل التقليديّة للتّعليم المسيحيّ أي الدّروس والمحاضرات والدّروس في الكتاب المقدّس وفي التوراة واللاهوت. من الضروريّ أن نستخدم وسائل أخرى من وسائل الحضارة العصريّة، منها الصحافة والراديو والتلفزيون، ولا بدّ أيضًا من استخدام الوسائل الإلكترونيّة، أي الإنترنت والمحاضرات عن بعد، والمواقع الإلكترونيّة، ووسائل أخرى حديثة يمكننا بها أن نوصِّل البشارة إلى أكبر عدد ممكن من الناس.
ظهور الكاهنِ نفسِه الخارجي بين الناس، بصورة تُظهِر طبيعة كيانه، هو أيضًا نوع من التعليم. قد نكون أهملنا قيمة هذا الحضور الخارجي مع أنّ الناس يقدِّرونه ويطلبونه، وليس الأمرُ تمسُّكًا بالشكليّات، بل إنّ الحضور الخارجيّ للكاهن هو صورة واقعيّة للكهنوت تُظهِرُ جوهرَ الرّسالة.
ب) ومجال آخر لشهادتنا هو تطوير المؤسّسات الخيريّة للكنيسة التي يمكنها أن تقدِّم خدمة ثمينة على مختلف المستويات للمحتاجين والضعفاء. "إن كان الأشخاص الذين نلاقيهم يعيشون في الفقر فيجب أن نساعدهم، كما كانت تعمل الكنيسة الأولى، متضامنة مع الجميع، ليشعروا أنّ هناك من يحبّهم". (3)
قال البابا بندكتس السادس عشر: "يجب أن نندِّد بمن يبذِّرون ثروات الأرض، فيسبِّبون بين الناس فروقـًا تصرخ إلى السّماء" ( يعقوب 5: 4) وتابع قوله: "الرّبّ يسوع، خبز الحياة الأبديّة، هو الذي ينبِّهنا إلى الشقاء الذي ما زال يعاني منه قسم كبير من البشريّة. وهي أوضاع واضحة ومقلقة وتقع مسؤوليتها على الناس أنفسهم" (سر المحبّة 90).
ج) نشر حضارة الحياة.
الكهنة في كلّ مكان، بالإتّحاد مع أساقفتهم، مدعوُّون إلى نشر حضارة الحياة التي تمكِّن من "المرور من الحرمان إلى امتلاك ما هو ضروريّ... ثمّ إلى امتلاك الحضارة... فإلى المشاركة في الخير العام... وإلى اعتراف الإنسان أخيرا بالقيم العليا وبالله: إذ هي المنبع والهدف" (بولس السادس، تقدم الشعوب،21).
ومن المهمّ أن نؤكِّد هنا أن تنشئة العلمانيّين يجب أن تكون شاملة، أي موجهّة لتكوين كلِّ الإنسان وكلِّ إنسان، مع اتّخاذ الوسائل اللازمة لإزالة الفروق الإجتماعيّة الشّاسعة بين الناس والإختلافات في إمكانيّة الحصول على الخيرات".
د) تنشئة المؤمنين العلمانيّين.
إذا ما تمَّت تنشئتهم تنشئة إفخارستيّة صحيحة، يجب مع ذلك حثُّهم ومساعدتُهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم السياسيّة والإجتماعيّة منسجمين في ذلك مع متطلَّبات عمادهم. يجب أن يُدرك جميع المعمّدين أنّهم وُسموا يوم عمادهم، وبحكم كهنوتهم العامّ، بوسم المسيح الكاهن والنبيّ والرّاعي. ومن ثمّ، يجب أن يشعروا بأنّذهم مسؤولون ومشارِكون في مسؤولية بناء المجتمعات بحسب القيم الإنجيليّة، وبحسب تعليم الكنيسة الاجتماعيّ. "هذا التعليم الذي نَضَجَ مدّة ألفيّ سنة من تاريخ الكنيسة يتميّز بالواقعيّة والاتّزان ومن ثمّ يساعد على تجنُّب التنازلات المنحرفة أو الأوهام الخياليّة" (سرّ المحبة، 91).
وقد أكّد تعليم الكنيسة مرارًا على مسؤوليّة المؤمنين العلمانيّين الخاصّة في العمل على تبديل البُنَى التي يسودها الظلم ببنًى غيرِها يسودها العدل، والتي لا يمكن أن يقوم مجتمع عادل من دونها. وعليهم لذلك أن يعملوا على إيجاد الإجماع اللازم حول القيم الأدبيّة وتوفير القوّة اللازمة للعيش بحسب هذه القيم". (بندكتس 16، الخطاب في الجلسة الافتتاحيّة لمجلس اساقفة أمريكا اللاتينيّة والكراييب، رقم 4).
ه) حماية العائلة.
كلّ الكهنة مدعوُّون إلى حماية العائلة المسيحيّة، فيقيمون في كلّ الجماعات الكنسيّة، ضمن الرّسالة الموكولة إليهم، عملاً رعوياً مختصًّا بالعائلة بحسب المواهب المختلفة لكلّ واحد فيها (يوحنّا بولس الثاني، في بداية الألف الجديد، 47). ولا بدّ من دعم وحدة العائلة، أي اتّحاد رجل واحد وامرأة واحدة مدّة الحياة كلّها، وفي عائلة واحدة يُسهم فيها الزوج والزوجة في عمل الله الخالق المُحب لخلقه.
ومع ذلك فهناك تعاليم سياسيّة وتيّارات فكرية ما زالت تنشر ثقافة تجرح كرامة الإنسان، وتتجاهل بل تعتدي بمقادير مختلفة على الحقيقة في الزواج والعائلة. على الكاهن أن ينادي باسم المسيح ومن غير كلل أو ملل، أن العائلة، وهي مربِّية الإنسان بصورة خاصّة وممتازة، ضروريّة ولا بديل لها، لسلامة "البيئة البشريّة" (يوحنّا بولس الثاني، السنة المئة، 39).
3. بفرح وسرور "أرفع كأس الخلاص وأدعو باسم الرّب" (مزمور 115: 12- 13).
قال يوحنّا بولس الثاني في رسالته إلى الكهنة يوم خميس الأسرار عام 2002: "يا للدّعوة العجيبة التي دعانا إليها الله، أيّها الكهنة والإخوة الأعزّاء. حقًّا، نقدر أن نكرِّر نحن أيضاً مع صاحب المزامير: "ماذا أردّ إلى الربّ عن كلّ ما أحسن به إليَّ؟ أرفع كأس الخلاص وأدعو باسم الربّ" (مزمور 115: 12- 13). هذه الكأس هي كأس البركة (1قورنتس 10: 16) وكأس العهد الجديد (لوقا 22: 20 و1 قورنتس 11: 25).
يقول القدّيس باسيليوس: "ماذا أردّ للرّبّ؟ لا ذبائح ولا محرقات... بل أقدِّم حياتي نفسها كلّها... ولهذا يقول صاحب المزمور: أرفع كأس الخلاص، ويعني بالكأس كلّ ما يتضمَّنه الجهاد الروحيّ من معاناة، ومقاومة الخطيئة حتى الموت" (عظة في المزمور 115: الآباء اليونانيّين،30، 109).
على مثال العديد من الكهنة القدّيسين الذين أتمّوا خدمتهم البطوليّة، كذلك نحن أيضًا يجب أن نستمدّ من الإفخارستيّا القوّة اللازمة للشّهادة للحقّ، من غير تنازلات ولا مواقف ضعيفة، "من غير حلول وسط خاطئة تميِّعُ تعاليم الإنجيل"، كما ذكر ذلك البابا بندكتس 16 في لقائه مع أساقفة ألمانيا (الخطاب في إكليركيّة كولونيا 21/8/2005).
في مجتمعات وحضارات مُنغلِقة دون ما هو فوق المادة، ومختنقة بمواقف إستهلاكيّة وبعبادات أصنام قديمة وجديدة، علينا أن نكتشف معنى سرّ الإفخارستيّا ونتعلَّم أن نقف مندهشين أمام ما يقدِّم السرّ لنا. علينا أن نجدِّد احتفالاتنا الليتورجيّة لتكون علامة بليغة لحضور المسيح في أبرشياتنا، ولا سيّما في رعايانا. علينا أن نوفِّر أماكن جديدة للصّمت والمشاهدة الإلهيّة والسّجود أمام القربان، حتى يكون فينا روح الرّسالة حيًّا وحقيقيًّا.
قال يوحنّا بولس الثاني إلى أساقفة البرتغال: "أنتم حرّاس لبيت الله، فاسهروا، أيّها الإخوة الأجلّاء، واعملوا على أن يواكب القدّاس الحياة الكنسيّة بصورة منتظمة، مع خدمة الكلمة والخدمة الإفخارستيّة. ليكن تلميذا عمّاوس مثالاً لكم إذ عرفا يسوع عند كسر الخبز فقط" (راجع لوقا 24: 13-35)، (خطاب إلى أساقفة البرتغال، في أثناء الزيارة الرسوليّة إلى روما، رقم 6، في الجريدة الرسميّة عدد 276 في 1/12/99).
سرّ الأمانة والثبات في حياة مؤمنينا، وسرّ الطمأنينة والصّمود لدى جماعاتنا الكنسيّة، في وسط الصِّعاب والشّدائد، يَكمُن في سرّ الإفخارستيّا. ففي عملنا الرعويّ، وقوامُه الكلمة والسرّ المقدّس، يجب أن نتجنّب عثرات الإفراط في النشاطات وعقليّة العمل في سبيل العمل. كذلك نتغلب على تحدّيات العلمانيّة والإلحاد حيث لا مكان للسيّد المسيح، ونقدِّم لمجتمعاتنا خبز الحياة الأبديّة.
لنفكّر في الأهميّة الإرساليّة لرعايانا التي هي بمثابة النسيج الأساسيّ لكلّ أبرشيّاتنا (راجع الحق القانوني، مادة 374، 1).
إننا نفكِّر في كلَّ رعيّة، ونرى فيها جماعة من المؤمنين بالمسيح. إلّا أنّه لا يمكنها أن تكون كذلك ما لم تكن جماعة إفخارستيّة منفتحة على أبعد الناس، أعني ما لم تكن جماعة مؤهَّلة للإحتفال بالإفخارستيّا بروح إرساليّة، وما لم ترَ في هذه الرّوح الجذور الحيّة التي تُبنى عليها والرّباط بالأسرار المقدّسة الذي يصنع كيانها ويجعلها في شركة كاملة مع الكنيسة (العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 26).
إنّنا نفكِّر في خدّام الرَّعايا، والذين لا يمكنهم أن لا يكونوا كهنة مرسومين، لأنّهم يعملون ويقولون في خدمة الإفخارستيّا وفي خدمة الكلمة ما لا يمكنهم أن يعملوه ويقولوه بقوّة من عندهم ومن ذاتهم البشريّة: فَهُم في الواقع يعملون ويقولون وهم واحد مع "شخص المسيح الرأس". إنّنا نفكّر في كلّ الكهنة، الشباب والمُسنين، الأصحّاء والمرضى، الذين إذا اكتشفوا من جديد هبةَ ذاتِهم لله بصورة مُطلقة، المتأصلة في الرِّسامة الكهنوتيّة، أمكنهم أن يُكرِّروا ما قاله البابا يوحنّا بولس الثاني: "حان الوقت للكلام بجرأة على الحياة الكهنوتيّة، وأنّها هبة لا تثمَّن وصورة باهرة ومتميّزة للحياة المسيحيّة" (أعطيكم رعاة، 39).
وهكذا فإنّ كنيسة الكلمة والأسرار المقدّسة ستكون دائمًا ومن غير كلل أو ملل كنيسة الكهنوت الخدمي، كنيسة الكاهن القدّيس، الذي يحبّ في أعماق ذاته، وبكلّ كيانه، الدّعوة التي قبلها من المعلم، ليتصرّف في كلّ لحظة مثل المسيح نفسه.
قال البابا بندكتس السّادس عشر في خطاب لأساقفة كندا- كيبك، في أثناء زيارتهم الرسوليّة إلى روما (11/5/2006): "إن تناقص عدد الكهنة في بعض الأماكن يثير بصورة مقلقة قضيّة خدمة الأسرار في حياة الكنيسة. ومن ثمّ، فإنّ تنظيم الحياة الرعويّة يجب ألا يحرِّف المفهوم الصَّحيح لحياة الكنيسة، فلا ينتقص من الدّور الرَّئيسيّ للكاهن فيها، وهو الذي يعلِّم ويقدِّس ويدير الجماعة متّحدا بيسوع المسيح الرأس. الكهنوت الخدميّ أمر جوهريّ لا بديل له في حياة جماعة كنسيّة. وأهميّة دور العلمانيّين الذين نشكرهم لسخائهم في خدمة الجماعات المسيحيّة، يجب ألا يغيِّبَ خدمة الكهنة التي لا بديل لها في حياة الكنيسة" (الجريدة الرسميّة باللغة الفرنسيّة رقم 20 في 16 أيار 2006).
نحن الكهنة يجب أن نهتمّ بأن نظهر هويّتنا الكيانيّة الحقيقيّة في مُمارسة الخدمة بفرح حتّى في أشدِّ الصِّعاب. وخدمتنا إرساليّة على أساس هويّتنا نفسها. ولنصلِّ مع جميع المؤمنين من غير ملل ونسأل ربَّ الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده. الدّعوات متوفرة، ولكن علينا أن نهِّيء لها الجواب الإيجابيّ، بهذه الوسائل وبالوسائل التي علَّمنا إيّاها الرّبّ، وبها وحدها لا بغيرها. هذه هي الكنيسة التي نريد أن نراها تزدهر من جديد وتعطي ثمرًا، في حيويتها ونشاطاتها. هي كنيسة الإرسال الإلهيّ، الكنيسة في حالة إرسال دائم.
إنّنا ننظر إلى سيّدتنا مريم العذراء، سيّدة الرُّسل وأمِّ الكهنة. إليها نكلُ أنفسنا وخدمتنا الرعويّة وكلّ الكهنة. نسألها أن تساعدنا لنكون مثلها بيوت قربان وأشعة تُظهِر يسوع الرّاعي الصّالح.
رسالة مجمع الإكليروس
في مناسبة يوم الصلاة العالمي لتقديس الكهنة 2007