العطاء

متفرقات

العطاء




العطاء


هناكَ مَن يتردَّد أمام عطاء ما يفيض عن حاجته. إنّه يخشى ألاّ يذهب ما يقدّمه في الاتّجاه الذي يريده، أو يخشى أن يُخدَعَ. كأن يقنعه شخص بأنّه معوز وهو ليس كذلك. أمام هذه الخشية نرى أصابع الكفّ تنطوي على ذاتها قليلاً أو كثيرًا، والعطاء يشحّ.


هناك مَن يتعلّق بما سيعطيه ممّا يفيض عن حاجته، ويرى أنّه بحاجة إليه، وهو أحقّ من الآخر الذي سيأخذه، فيخصم جزءًا ممّا سيقدّمه، ويعطي القسم الثاني بدون سخاء قلب.


وهناك مَن يقيم صفقة مع الله، صفقة رابحة. أعطيك ما يفيض عن حاجتي مقابل أن تعطيني، وكأنّ الله ينتظر عطاءه كي يردّ، في حين أنّ الله هو الذي يُبادر، ودون شروط، فقط بأمنية أن يتمّ التجاوب والتبادل بين الطرفين، علامةً على المحبّة التي تربط بينهما.


وهناك مَن يقدّم ما يفيض عن حاجته وجاهةً أمام النّاس، كي يسمع منهم المديح والثناء. هذا الإنسان لا يفعل ما يفعله حبًّا بالآخرين، ولا حبًّا بالله، بل حبًّا بنفسه.


لقد رأى يسوع هذه النماذج وانتقدها. ثمّ رأى امرأةً، وهي لم تره. (مرقس 12: 38 – 44) رآها تلقي، وهنا علينا أن ننتبه إلى العبارة والإلحاح: «جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها». فكلمتا جميع وكلّ تذكّرانا بخلاصة الشريعة والأنبياء: أحبب الربّ إلهك من كلّ... ليس الفلس هو الذي لفت انتباه يسوع، بل حركة الكلّ، الكفّ السخيّ ممدود الأصابع.


المشكلة التي نواجهها هو أنّنا لسنا أرامل، ولسنا مُعدَمين. فكيف نقدّم لله هذا الكلّ؟ هل نتخلّى عن كلّ ما نملكه؟ ما الّذي يستطيع إنسان ميسور الحال أن يفعله كي تنطبق عليه صفات الأرملة الّتي نالت إعجاب يسوع وأثنى عليها؟ هوذا السّؤال الّذي ينبغي أن نطرحه كلّ واحدٍ على نفسه.


إنّ تقديم فلس الأرملة هو أساس روحانيّة المحبّة المسيحيّة. وفلس الأرملة ليس مالاً بالضرورة، بل قد يكون وقتًا. وإذ لا وقت لدينا، أصبح الوقت فلسنا الّذي يستحقّ مديح يسوع. إذا أردنا أن نتشبّه بالأرملة علينا أن نصادق الفقير؛ أن نزوره؛ أن نتعرّف إليه؛ أن نقضي معه وقتًا لنتحادث ونتسامر «هو بقربنا ونحن بقربه». لا نريد أن نمدّ أيادينا إليه لنساعده بل لنصافحه، لنقول له: أنت صديقنا ونحن نحبّك. فالحبّ لا يُقدّر بالمال. الحبّ لا يُقاس بمعيار، الحبّ يُعاش في العلاقة.


وكما أنّ الأرملة كانت عبرة، كذلك يستطيع الفقير أن يكون لنا عبرة. فحياته تعلّمنا كيف نشكر الله على أبسط الأمور الّتي لدينا، الأمور الّتي، من شدّة تواجدها، لم نعد حتّى نلحظها. نشكر الله على الطعام الّذي نأكله، على الماء السّاخن الّذي نغتسل به، على الحذاء غير المهترئ الّذي نلبسه... الفقير يعلّمنا كيف نفرح بأبسط الأمور: بلعبةٍ صينيّةٍ رخيصة، بقطعة حلوى رديئة، بقميص بسيط، بأداة تجميلٍ ساذجة. الفقير يعلّمنا الضيافة والاستقبال والبساطة في العيش والثقة بالآخر والابتسام في وادي الدموع. والأهمّ من هذا كلّه، الفقير يعلّمنا التوكّل على الله والاستسلام للعناية الإلهيّة.


قد يكون فلسنا هو الحضور. حين وقفت مريم العذراء عند الصّليب، لم تفعل شيئًا سوى أنّها كانت حاضرة. كان هذا كلّ ما يمكنها أن تفعله، كان هذا أعظم ما تفعله. لقد شاركت ابنها آلامه من خلال الحضور. لا يستطيع أحد أن يتألّم بدل الآخر، ولكنّه يستطيع أن يتألّم مع الآخر.


وحضورنا إلى جانب الفقير يريد أن يكون مشاركة في ألمه، في عجزه، في ضعفه. من الآن، لن يتألّم وحده، بل سنتألّم معه، لعلّنا نردّ للمسيح، المتجسّد في شخص الفقير، بعض ما تحمّله من ألمٍ بسبب خطايانا. فرسالتنا ليست مبادرة بل سداد دينٍ توجّب علينا تجاه المسيح، وهو يقول لنا: لي عليكم دين، فادفعوه لممثّلي على الأرض، للفقير الّذي يعيش في مدينتكم.


والعملة الّتي سنسدّد بها الدَين هي الوقت الّذي سنخصّصه له، على الرّغم من انشغالاتنا، وعلى الرّغم من الصعوبات الّتي نواجهها في التّسديد. إنّه فلسنا، وفي الهيكل، أي في بيت الفقير، حيث يقيم الله، نسعى إلى دفع الحساب.


الأب سامي حلاّق اليسوعيّ.