الطاعة إلى صوت الرّوح القدس الذي يدفع لبذل الحياة في سبيل إعلان الإنجيل حتّى في أبعد الأماكن هي ميزة كلّ إنسان يختار أن يخدم الكنيسة من خلال الرِّسالة، هذا ما تمحورت حوله عظة الأب الأقدس في القدّاس الإلهيّ الذي ترأسه صباح اليوم الثلاثاء في كابلة بيت القدِّيسة مرتا بالفاتيكان.
قال البابا فرنسيس: دعوة تحثّ وتدفع المرء ليقدّم حياته للمسيح لا بل ليبذلها في سبيله؛ هذا ما يقيم في قلب كلّ تلميذ وهذه أيضًا هي النّار التي كانت تتّقد في قلب القدّيس بولس وهي النّار عينها التي لا تزال اليوم تتّقد في قلوب العديد من الشّبان والشّابات الذين تركوا أوطانهم وعائلاتهم وانطلقوا بعيدًا، إلى قارات أخرى ليعلنوا يسوع المسيح.
إنطلاقـًا من كتاب أعمال الرّسل (20/ 17-27) والذي يُخبرنا عن وداع بولس لجماعة ميليطِش؛ مشهد مؤثِّر جدًّا: فبولس يعرف أنّه لن يرى مجدّدًا هذه الجماعة ويقول هذا الأمر لشيوخ الكنيسة الذين استدعاهم من أفسس. إنّها ساعة الإنطلاق إلى أورشليم، إلى هناك يقوده الرّوح القدس، الرّوح عينه الذي يعترف بسيادته المُطلقة على حياته والذي دفعه دائمًا لإعلان الإنجيل بالرّغم من جميع المشاكل والصعوبات. وأعتقد، أنّ هذا المقطع من كتاب أعمال الرّسل يشير إلى حياة المرسلين من كلّ الحقبات.
لقد كانوا ينطلقون يدفعهم الرّوح القدس: إنّها دعوة! وعندما نذهب في تلك الأماكن إلى المقابر ونرى مقابرهم نجد أنّ العديد منهم قد توفوا بعمر الشباب لأنّهم لم يكونوا مستعدّين لمواجهة واحتمال الأمراض التي أُصيبوا بها في تلك الأماكن. لقد بذلوا حياتهم وهم في عمر الشباب. وأعتقد أنّهم في تلك اللحظات الأخيرة، بالرّغم من أنّهم كانوا بعيدين عن أوطانهم وعائلاتهم وأحبّائهم قد قالوا: "إنّ ما فعلته يستحقّ العناء كلّه!".
إنّ المُرسل ينطلق بدون أن يعرف ما ينتظره، يذكرنا وداع القدّيس فرنسيس كسفاريوس قبل موته بكلمات القدّيس بولس التي سمعناها، لكن بولس الرّسول قد قال في تحيّته لجماعة ميليطِش: "هاءَنذا اليَومَ ماضٍ إِلى أُورَشَليم أَسيرَ الرُّوح، لا أَدري ماذا يَحدُثُ لي فيها. على أَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ كانَ يُؤَكِّدُ لي في كُلِّ مَدينَةٍ، بِأَنَّ السَّلاسِلَ والشَّدائِدَ تَنتَظِرُني. ولكِنِّي لا أُبالي بِحَياتي". إن المرسل يعرف جيّدًا أنّ حياته لن تكون سهلة ومع ذلك يذهب وينطلق.
إنّ مرسلينا هم أبطال البشارة في زمننا. وأوروبا قد ملأت القارات الأخرى بالمرسلين الذين ذهبوا ولم يعودوا... أعتقد أنّه لحقّ أن نشكر الرَّبَّ على شهادتهم، ومن الحقِّ أن نفرح بأنّه لدينا هؤلاء المرسلين: الشّهود الحقيقيِّين. أفكّر على الدوام بلحظاتهم الأخيرة على هذه الأرض وكيف ودّعوا هذه الحياة. على مثال القدّيس فرنسيس كسفاريوس: "لقد تركت كلّ شيء ولكنّ هذا الأمر استحقّ العناء كلّه!" لقد رحلوا مجهولي الهويّة، وبعضهم أيضًا شهداء قدّموا حياتهم في سبيل الإنجيل. هؤلاء المرسلين هم فخرنا وفخر كنيستنا!
إنّ ميزة المرسل إذًا هي الطاعة، أرفع الصّلاة إلى الله سائلاً أن يحمل صوت الرّوح القدس شباب وشابات اليوم لينطلقوا بعيدًا ويبذلوا حياتهم في سبيل أمور نبيلة. أريد أن أقول لشبان وشابات اليوم الذين لا يشعرون بالرّاحة والطمأنينة بسبب ثقافة الاستهلاك والنرجسيّة: أنظروا إلى الأفق! أنظروا إلى مرسلينا هؤلاء! صلّوا للرّوح القدس الذي حملهم ليذهبوا بعيدًا ويبذلوا حياتهم. إنّها كلمة قاسية بعض الشيء ولكنَّ الحياة تستحقُ أن نعيشها وإنّما ينبغي أن نعيشها جيدًا وأن نبذلها في الخدمة والبشارة والسَّير قدمًا. هذا هو فرح إعلان الإنجيل!
إذاعة الفاتيكان.