الشهادة والتذمُّر والسؤال

متفرقات

الشهادة والتذمُّر والسؤال

 

 

 

الشهادة والتذمُّر والسؤال: هذه هي الكلمات الثلاثة التي توقّف عندها البابا فرنسيس في عظته مترئسًا القدّاس الإلهيّ صباح يوم الخميس في كابلة بيت القدِّيسة مرتا بالفاتيكان والتي استهلّها انطلاقًا من إنجيل لوقا (15/ 1 -10) والذي يبدأ بالشهادة التي يقدّمها يسوع: "كانَ العَشّارونَ وَالخاطِئونَ يَدنونَ مِن يَسوعَ جَميعًا لِيَستَمِعوا إِلَيه. فَكانَ الفِرّيسِيّونَ وَالكَتَبَةُ يَقولونَ مُتَذَمِّرين: "هَذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ وَيَأكُلُ مَعَهُم!".

 

 

 

 

 نجد أوّلاً شهادة يسوع: أمرٌ جديد لذلك الزمن لأنّ الذهاب للقاء الخطأة يجعلك غير طاهر تمامًا كلمسك للأبرص؛ لذلك كان علماء الشريعة يبتعدون عنهم. وبالتالي إنّ الشهادة وعبر التاريخ لم تكن أبدًا أمرًا سهلاً للشهود - الذين غالبًا ما كانوا يدفعون الثمن بالاستشهاد - أو للمقتدرين. الشهادة هي كسر للعادة وأسلوب حياة... كسر بأسلوب جيّد أي تغييرها.

 

 

لذلك تسير الكنيسة قدمًا لتشهد لأنّ ما يجذب هو الشهادة ولا الكلمات! الكلمات تساعد نعم لكنّ الشهادة هي التي تجذب وتنمّي الكنيسة. ويسوع يقدم شهادة. إنّه أمر جديد ولكن لم يكن جديدًا جدًا لأنّ رحمة الله نجدها أيضًا في العهد القديم؛ لكنّ علماء الشريعة لم يفهموا معنى: "رحمة أريد لا ذبيحة"، لقد كانوا يقرؤونها ولكنّهم لم يفهموا ما هي الرّحمة؛ ويسوع يعلن هذه الرّحمة بطريقة تصرّفه أي بالشهادة.

 

 

 

 إنّ شهادة يسوع تسبِّب الاستفزاز، ومن هنا نفهم تذمّر الفريسيِّين والكتبة وعلماء الشريعة الذين كانوا يقولون: "هَذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ وَيَأكُلُ مَعَهُم!" لا "أنظروا هذا الرّجل يبدو صالحًا لأنّه يسعى لكي يتوب الخطأة ويعودوا عن خطأهم". لقد كان موقفهم يقوم على التعليق السلبيّ ليدمِّروا الشهادة.

 

 

 إنَّ خطيئة التذمُّر هي يوميّة، أكان في الأمور الصّغيرة أو الكبيرة لأنّنا غالبًا ما نجد أنفسنا نتذمّر لأنّ هذا الشيء أو ذاك الشيء لا يعجبنا وبدلاً من أن نتحاور ونسعى لحلِّ أوضاع النزاع نتذمّر في الخفاء لأنّنا لا نملك الشجاعة للتكلّم بوضوح. هذا الأمر يحصل أيضًا في المجتمعات الصغيرة والرعايا. وما أكثر التذمُّر في الرعايا! عندما يكون هناك شهادة ما أو شخص ما لا يعجبني يحتد التذمّر.

 

 

 

 

 وفي الأبرشيّات؟ الكفاح بين الأبرشيّات... والنزاعات داخل الأبرشيّة؛ تعرفون هذه الأمور جيدًا. وفي السياسة أيضًا وهذا أمر سيّئ. عندما لا تكون الحكومة صادقة وتسعى لتشويه الأعداء بالتذمّر إن كان عبر الافتراء أو الاغتياب. وأنتم الذين عشتم تحت الحكم الديكتاتوريّ تعرفون جيّدًا كيف تسير الأمور في الحكومة الديكتاتوريّة، تسيطر أولاً على وسائل الإتصال بواسطة قانون معيّن ومن هناك يبدأ التذمّر وتحجيم جميع الذين يشكّلون خطرًا للحكومة. وبالتالي فالتذمّر هو خبزنا اليومي إن كان على الصعيد الشخصيّ أو العائليّ أو كرعيّة أو أبرشيّة...

 

 

 

 

 إنّه نوع من الهروب لكي لا ننظر إلى الواقع ولكي لا نسمح للأشخاص بأن يفكّروا، ويسوع كان يعرف هذا الشيء ولكن لأنّه صالح لم يدنهم ولم يحكم عليهم بسبب تذمّرهم بل سألهم سؤالاً، استعمل أسلوبهم. هكذا كانوا يتصرّفون ليوقعوا بيسوع لنأخذ على سبيل المثال سؤال دفع الجزية لقيصر أو حقّ الرّجل بأن يطلِّق امرأته. لقد استعمل يسوع أسلوبهم ولكنّنا سنرى الفرق. قال لهم يسوع: "أيُّ امرِئٍ مِنكُم إِذا كانَ لَهُ مائَةُ خَروفٍ فَأَضاعَ واحِدًا مِنها، لا يَترُكُ التِّسعَةَ وَالتِّسعينَ في البَرِّيَّة، وَيَسعى إِلى الضّالِّ حَتّى يَجِدَهُ؟".

 

 

 

كان من الطبيعي أن يفهموه ولكنّهم لم يفهموه لأنّهم راحوا يحسبون لا يزال لدي تسعة وتسعين يمكن لذلك الخروف أن يضيع ولن يؤثِّر الأمر على الميزانية لننقذ إذًا هذه الباقية. هذا هو المنطق الفرّيسي وهذا منطق علماء الشريعة. يسوع يسألهم "أيُّ أمرئ منكم؟" وهم يختارون بعكسه؛ ولذلك لا يتكلّمون مع الخطأة ولا مع العشارين إذ يفضّلون ألا يدنّسوا أنفسهم بهؤلاء الأشخاص. ويسوع ذكيّ في طرحه للسؤال إذ يدخل في حالاتهم القانونيّة ويتركهم في موقف مختلف عن الموقف الصّحيح. "أيُّ أمرئ منكم؟" ولا أحد منهم سيجيب: "نعم هذا صحيح" وإنّما "لا أنا لن أقوم بذلك" ولذلك هم غير قادرين على المغفرة وعلى أن يكونوا رحماء.

 

 

 

 

وختم الأب الأقدس عظته مذكّرًا بالكلمات الثلاثة التي تمحورت حولها عظته: الشّهادة التي تستفزُّ وتجعل الكنيسة تنمو، والتذمّر الذي يشكل حاجزًا في داخلنا لكي لا تلمسنا الشهادة وسؤال يسوع. وذكّر البابا أيضًا بكلمة أخرى فرح العيد الذي لا يعرفه هؤلاء الأشخاص أي جميع الذين يتبعون درب علماء الشريعة الذين لا يعرفون فرح الإنجيل؛ وخلص البابا إلى القول ليُفهمنا الرّب منطق الإنجيل الذي يتعارض مع منطق العالم.      

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.