نعلن اليوم باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، بالتنسيق مع جمعيّة الكتاب المقدّس والرابطة الكتابيّة والأمانة العامة للمدارس الكاثوليكيّة، إنطلاق "أسبوع الكتاب المقدّس". وفي هذا المجال، ولكي تُصبحَ كلمة الله روحَ الحياة المسيحيّة وركيزتها، يدعونا الإرشاد الرسولي للبابا بندكتس السادس عشر (2012) حول "الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة" للعمل على نشر الكتاب المقدّس وسط العائلات. لأنّ ذلك سيشجّع على القراءة والتأمّل يوميّاً في كلمة الله. ويضيف الإرشاد "لا بدّ من تطبيق راعويّة كتابيّة حقيقيّة بالطرق الملائمة، ثمّ يدعو للإعلانُ عن سنةٍ كتابيّةٍ، يتبعها أسبوعٌ سنويٌّ للكتاب المقدّس.
وإذ يشدّد على كون وسائل التواصل الحديثة قادرةٌ على أن تكون أداةً ملائمة لإعلان الكلمة، وتسهيل قراءتها والتأمّل فيها؛ وعلى أنّها، من خلال تفسير الكتاب المقدّس بطريقةٍ مبسّطة وسهلة، تساهم في تبديد الأحكام المسبقة والأفكار الخاطئة حول الكتاب المقدّس؛ أفكارٌ أدّت وتؤدّي الى خلافات عديمة الفائدة ومؤذية، أضرّت بفهم النصوص المقدّسة، رتّبت تبعاتٍ على مستقبل الحوار بين الأديان.(عدد 72)
ويوضح البابا بندكتس قائلاً: "بغضّ النظر عن المكانة الهامّة التي تحتلّها وسائل التواصل الإجتماعيّة، فهي لا يسعها أن تحلّ مكان التأمل في كلمة الله، واستيعابها وتطبيقها بغية الإجابة عن تساؤلات المؤمنين. بهذا الشكل يولد لديهم تآلفٌ مع الكتاب المقدّس وبحثٌ وتعمّقٌ في الروحانيّات وإلتزامٌ في الرسالة". (عدد 74)"
وحدَه التأمّلُ في كلمة الله والتآلفُ معها يساعد المؤمن على التمثّل بمعلّمه في حياة كلّ يوم، فيصبح أهلاً ليشاركه في ألقابه الثلاثة التي أُعطيت للمسيح يسوع في سفر الرؤيا، وهي أنّه "الشاهد الأمين الصادق". وإذا كانت هذه الصفات الثلاث قد أُعطيت لمن هو الألف والياء، البداية والنهاية، فذلك للدّلالة على الرسالة التي حملها المسيح، والتي على تلاميذه وتلميذاته أن يحملوها.
أوّل صفةٍ للشاهد والشهيد هي التمثّل بالمسيح يسوع. هذا ما فعله إسطفانوس أوّل الشهداء. فعندما نقرأ عن استشهاد اسطفانوس، في أعمال الرسل، نراه يتبنّى موقف المسيح يسوع في نزاعه الأخير على الصليب، ونسمعه يردّد كلاماً شبيهاً بكلامه. إنّه يستسلم لإرادة الله، يغفر لراجميه، فيَدْعُو ويَقُول: "أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوع، تَقَبَّلْ رُوحِي!". ثمَّ يجثَو عَلى رُكْبَتَيْهِ ويصرخ بِصَوْتٍ عَظِيم: "يَا رَبّ، لا تُقِمْ عَلَيْهِم هـذِهِ الـخَطِيئَة!" (أعمال، 7/54-60)
لم يحمّل إسطفانوس راجميه خطيئة رجمه، لأنّ ما يصبو إليه الشاهد الحقيقي أبعد بكثير من المعاندات والتحديّات والصعوبات والآلام التي يواجهها. الشاهد الحقيقي هو كما يقول لنا كتاب أعمال الرسل عن اسطفانوس: "يرَى السَّمَاوَاتِ مُنْفَتِحَةً، وابْنَ الإِنْسَانِ واقِفًا عَنْ يَمِينِ الله!". لم يعد ينظر إلى حالته، إلى مشكلته، لم يعد يهاب الألم والموت، لقد أصبح نظره ثابتًا معلّقاً في السماء.
الصفة الثانية هي الأمين. إنّ صفة "الأمين" هي من صفات الله. والقدّيس بولس يعطي في رسائله هذه الصفة لله كما يعطيها سفر الرؤيا للحمل: الله هو الأمين! وفي العهد القديم: الله أمينٌ لشعبه حتّى ولو انحرف الشعب وابتعد! الله أمينٌ! لا يبتعد كما يقول نشيد القدّيس بولس: إذا كنّا نحن لسنا بأمناء، فالله يبقى أميناً لأنّه لا ينكر ذاته (2 تيموتاوس 2/13). إنّه الأمين!
والأمين لكلمة الله، والذي يتآلف مع كلمة الله، لا يعلّم ذاته؛ إنّه يعلّم كلمة الله صافيةً. ويعلّمها ليس بالكلام فقط، إنّه يعلّمها بالمثل. الإنسان، وإن لم يكن متعلّماً، أو مثقفًا، أو متكلّماً، فهو في إلتزامه، في جديّة عمله، في نموذج معاطاته وحياته، يبشّر بإيمانه وبقيمه.
أمّا الصفة الثالثة فهي الصادق. إنّها نتيجة للتوازن، للإنسجام، بين ما نقول وما نفعل. لا ازدواجيّة في المسيح يسوع، ولا ازدواجيّة في المؤمن الحقيقي. ألَم يقُل لنا المسيح: "ليكن كلامكم نعم نعم، أو لا لا، وما زاد على ذلك، فهو من الشرّير"؟ (متى 5/37)
هذه الصفة ترتبط بعمقٍ بسرّ التجسّد. يقول لنا يوحنّا الإنجيلي إنّ "الكلمة صار جسدًا وسكن بيننا" (يوحنا 1/14). دخل المسيح تاريخنا فبدّله، ونحن أيضاً لا نستطيع أن ندخل التاريخ، أو نكون فاعلين فيه، من دون تجسّد! تكبر فاعليّة الكلمة بقدر ما تكون متجسّدةً، ولا قيمة لها إذا بقيت أصواتاً تتلاشى مع الريح. الصدق هو في أن تصبح الكلمة فعلاً، أن تصبح جسداً!
من حقّ الناس أن ينظروا إلينا ويتساءلون إذا كنّا فعلًا شهودًا أمناء صادقين. لذلك فلنكن حذرين ساهرين لئلّا نخيّب آمالهم.
دعوتُنا أن يصبح كلُّ أسبوعٍ في حياتنا أسبوعَ الكتاب المقدّس، فنتآلفُ معه يوماً بعد يوم، ونتحوّلُ رويداً رويداً لنصبح شهوداً أمينين صادقين، نقولُ حيثما حللنا:
كلمةَ حياةٍ، تُروي أرضنا التي سئمت حضارة الموت؛
كلمةَ فرحٍ، تُسعِدُ المُثخن بالحزن والألم؛
كلمةَ رحمةٍ، تشدّدُ الأرجل المخلّعة من إدانات الآخرين وأحكامهم.؛
كلمةَ رجاءٍ، تُبلسمُ القلوب اليائسة والمحبطة لما تواجه من ظلمٍ وشرّ؛
كلمةً طيّبة، تُشبع الأرواح الجائعة إلى ملء الحقّ والحقيقة؛
كلمةً ثمينة، تسدُّ فراغ الكلام الذي يصمّ الآذان ولا يدخل القلب؛
كلمةَ محبّةٍ، تريح وتشفي النفوس المُثقلة بالحقد والأنانيّة؛
وكلمةٌ واحدةٌ تقدرُ أن تمنحنا كلّ هذه الخيرات: إنّها كلمة الكتاب المقدّس، إنّها كلمة الله!
بمناسبة أسبوع الكتاب المقدّس الخامس 2017
الندوة الأولى حول "الشهادة في الكتاب المقدّس "
في المركز الكاثوليكي للإعلام
كلمة المطران كميل زيدان عن"الشاهد الأمين الصادق" (رؤيا 14/3)، في سنة الشهادة والشهداء.