السهر والانتظار والصبر، الأمانة والثقة، هذه الوقائع تشكل شبكة حياتنا. كما يمكننا أن نضيف عدم الصبر والخوف، الهموم والآمال المتروكة جانباً. هذا الانتظار نعيشه في أغلب الأحيان كفراغ أو نقص علينا أن نأخذه على عاتقنا.
انتظار سكن، انتظار ورقة مهمة، امتحان، نتيجة تحاليل طبية، السهر على قريب مريض، ليالي قلقة بدون نوم، صبر يُمتحن على رجاء الزواج، وأن يُعطى لنا طفل، أن نجد عمل، أن نكون بوضع أفضل، وأن نرى أمورنا بشكل عام تتحسن وتذهب نحو الأفضل.
هناك انتظارات وسهر تُستحق أن تُعاش، رغبات شرعية لحياة تتأنسن، وهناك انتظارات ورغبات عبثية لا فائدة منها حيث ننهك أنفسنا فيها وأحياناً نضيع، انتظارات قد تكون بدون مشروع محدد، كلها تتركنا «ذابلين كالورق». ثم كل الخبرات الشخصية التي تأتي وتتلاقى مع خبرات المجتمع والعالم. مستقبل مظلم وغير واضح ويبدو معلّق بين أيدي الخبراء الاقتصاديين وقرارات السياسيين المنتظرة لكن غالباً خاضعين لها.
الشعور بأن سيطرتنا على الواقع في تراجع هائل، كما لو أن المعنى غاب عن المغامرة المشتركة لمصلحة الفائدة المنطقية للسوق، أو ردود أفعال عنيفة وضياع. وقائع تشكل بداخلنا صدى «لماذا يا رب تتركنا نضيع؟» (أشعيا 63/ 17)ومع ذلك النبي أشعيا الغائص في محنة شعبه (الشعب الموجود في المنفى) لا يتردد في اعتبار صلاته على أنها قد استجيبت.
والملفت للانتباه في سفر أشعيا (63/ 16 -19)(64/ 2 - 7) تداخل أفعال الماضي والحاضر والمستقبل في نبوءته. بالإيمان ينقل ذاته مسبقا إلى هذا المستقبل حيث الله سيكون أخيراً قد جمع وصالح فيه، كل شيء. وهذا ما نحن مدعوين إليه اليوم. في وسط فوضى عالمنا وأحياناً فوضى حياتنا، نعلن بالإيمان بأن انتصار الله هنا، وأن هذا الانتصار لله هو انتصارنا. هذا هو أحد أوجه تباين الوجود المسيحي: كل شيء قد أُعطي لنا ومع ذلك ننتظر كل شيء.
العهد الجديد يبدأ بقوله لنا: المسيح آتٍ، إنه هنا، لقد أتى... ويختم في سفر الرؤيا «تعال، تعال أيها الرب يسوع» (رؤ22، 20). فإذا كان هناك من أمر صعب علينا فهو بالتحديد أن نعيش هذا البعد للانتظار. كما في كل مرة في تاريخ شعب العهد القديم، وفي تاريخنا نحن، نتعرض لتجربة النسيان. النسيان بأن الله أشار لنا، حدد لنا المعنى ووعد بمستقبل، مفكرين في أغلب الأحيان بأن إتمام حريتنا عليه أن يحررنا منه، وأنه بإمكاننا أن نضع يدنا على الوعد.
إذا كان هناك من انتظار عادل، وصبر محب فعلاً، فهو صبر وعدل الله. فهو الذي لا يتوقف دائماً، وبطرق متعددة، بأن يشير لنا بأن حياته هي التي تملي وجودنا. هذه الحياة المكشوف عنها والمُعطاة بابنه المسيح، الوحيد القادر أن يروي هذا العالم ويسمح بخصوبة حقيقية لوجودنا. فالرهان، في بداية زمن المجيء هذا، محدد بوضوح في الإنجيل: أن نستقبل من أتى ويأتي باستمرار.
ولكن ليس أي انتظار. هذا الانتظار موجّه نحو خير أكبر من أي خير آخر، موجّه نحو ما هو جوهري ويغذي ويبني، نحو علاقة تعطي معنى لكل أبعاد حياتنا الشخصية والجماعية. بعض آباء الكنيسة وجدوا علاقة بين نص إنجيل مرقس (13/ 33 -37) ورواية آلام يسوع، حيث المطلوب هو السهر، عدم النوم، في مساء العشاء الأخير، وفي وسط الليل عندما يدخل ربّ البيت، وهو يحتضر لدى صياح الديك الذي، يذكر كيف أن الله قادر أن يأتي للقائنا في قلب النكران وفي صباح حكم أهل البيت على ربّ البيت.
هذا يعني أننا مدعوين أولاً لانتظار ساعة الفصح من خلال السهر لكي لا تفوتنا. ساعة فصح المسيح التي تعلن ساعتنا. ساعة الفصح، هي اللحظة التي علينا أن نقرر فيها من أجل المسيح، باختيارنا الدخول في طريقة تصرفه. إنها اللحظة حيث يتم انقلاب حياتنا وندع الحب المنتصر أن يعبر فيها. قد يبدو غريبا التحدث عن الفصح بينما نحن في صدد التحضير للميلاد.
لكن في الحقيقة هما رواية واحدة، ونور واحد ينير بطريقة خاصة كل وقائع العالم. فطريقة تصرف المسيح، مستقبلاً ذاته من أبيه وواهباً ذاته للبشر، هذه الطريقة في التصرف تشكل الكشف والمؤشر والمقياس الذي يسمح لنا بأن نضبط ونعطي المعنى لحياتنا ومشاريعنا ورغباتنا ومغامراتنا الشخصية والجماعية. ففي هذا النور يكشف لنا نطاق وضخامة ما نحاول عيشه بالإيمان في عمق ظلمات أيامنا.
وبالتالي علينا أن نتساءل: هل ننتظر اليوم أيضاً وبقناعة، مجيء المسيح؟ هل نعرف أن نبحث عن الله في مستقبلنا، كحراس، نافذي الصبر بأن يأتي الفجر وحاملين في قلبنا استعجال مجيء المسيح؟
الأب تيار دي شاردان يقول في كتابه المحيط الإلهي بخصوص عيد الصعود: «الرب يسوع لن يأتي بسرعة إلاَّ إذا انتظرناه كثيراً. فتراكم الرغبات هو من يفجر مجيء المسيح. كمسيحيين مسؤولين على الحفاظ دائماً على شعلة الرغبة حية في العالم، ماذا صنعنا من الانتظار عشرين قرنا بعد الصعود؟».
إنه سؤال علينا أن نطرحه على أنفسنا والكنيسة أيضاً، هي التي تُعرِّف ذاتها بما تنتظره وترجوه. ألا نتصرف أحيانا كما لو أن الله أصبح وراءنا، كما لو أننا لا نجد الله إلاَّ في ذكرى الميلاد؟
إن لم يكن هناك من مستقبل مميز بالجديد الذي يمكن للمسيح أن يبنيه، فالسير على خطى المسيح اليوم يصبح أمر صعب. أي معنى يمكن أن يكون لزمن بدون موجه ولا لاتجاه، وأي رجاء يمكن أن يُفتح؟ أليس هنا، في هذا الاتجاه يمكننا أن نجد أسباب ضياع مجتمعاتنا؟ زمن التهيئة هو زمن فيه نتمرن معاً على انتظار المسيح، وتجديد الرجاء.
إنه الزمن الذي فيه نصبح حراس، الاسم المعطى للأنبياء، لنقول للعالم ولنا ما الذي يحدث، لنقول علامات الله، وطرق الحياة، والطرق التي لا تؤدي إلى شيء. لندخل بقناعة من خلال سهرنا وأعمالنا في هذا الانتظار لحضور الله الذي يفتح من أجلنا أبواب المستقبل. ولتوقظنا هذه الإفحارستيا التي نحتفل بها إلى أن يأتي، لننتظر من أجلنا ومن أجل الآخرين مجيء الرب يسوع.
الأب رامي الياس اليسوعي.