1- بشارة الملاك جبرائيل لمريم هي للكنيسة وللبشرية جمعاء. لأن مريم ستكون أم الإله المتجسّد، المسيح التاريخي، الذي كشف لنا كلّ سرّ الله الواحد والثالوث، وفي ضوئه سرّ الانسان ومعنى التاريخ؛ ولأنها ستكون أمّ أعضاء جسده السرّي، أمّ المسيح الكلي الذي هو الكنيسة. ولذا، حيّاها الملاك بلفظة "السلام" الذي يعني الفرح والتغبيط. أما الحظوة التي نالتها تشمل البشرية بأسرها بشمولية عمل الفداء والخلاص، وببداية عهد مسيحاني جديد لا نهاية له، يبدأ على أرضنا ويكتمل في مجد السماء.
2. يُسعدني أن نحتفل معًا بهذه لليتورجيا الإلهية التي اعتدنا أن نقيمها في الذكرى السنوية لبداية خدمتي البطريركية، وهي الخامسة اليوم. ونرفعها ذبيحةَ شكر لله على نعمه، وذبيحةَ استغفار عن الخطايا والنواقص، وذبيحةَ استلهام لاكمال خدمتي الراعوية على رأس كنيستنا البطريركية الانطاكية السريانية المارونية. وإني أوجّه تحية محبة واخلاص لأبينا صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس ولأخواني السادة المطارنة الأجلاء أعضاء سينودس كنيستنا البطريركية الذين سلّموني بثقتهم الغالية رعاية كنيستنا في 25 أذار 2011، ذاكرًا معهم إخواننا المثلثي الرحمة المطارنة الذين شاركوا في المجمع الانتخابي وودعناهم بعد ذاك التاريخ.
وإني أشكركم جميعًا وإخواننا المطارنة الغائبين واؤلئك الذين يرعون أبرشياتهم خارج لبنان، سواء في النطاق البطريركي أم في بلدان الانتشار. ولكم ولهم جميعًا أقدّم اعتذاري عن كل تقصير أو عن أي أمرٍ أساء إلى أحد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. لكني أجزم بأني لم أقصد يومًا أذية أو إساءة لأحد. ففي قلبي محبة واحترام وتقدير لكل واحد منكم ومنهم. وإننا بالثقة المتبادلة والتعاون، نواصل خدمتنا الراعوية المشتركة لخير شعبنا، ووطننا الأم والروحي لبنان، وسائر أوطان أبناء كنيستنا حيثما هم.
3. إننا نكرّم اليوم أمنا مريم العذراء في تذكار البشارة لها من الملاك، وقد نقلنا العيد من 25 أذار الماضي، لتزامنه مع الجمعة العظيمة، إلى هذا التاريخ. نكرّمها لأنها حظيت بشرف الأمومة للإله وللكنيسة، ولأن بواسطتها تفيض النعمة الإلهية على البشرية جمعاء، بوصفها الشريكة في تجسّد ابن الله وعمل الفداء الذي أتمّه بموته على الصليب وبقيامته، وفي استحقاق ثماره فينا بفعل الروح القدس. ولذا سمّاها الملاك جبرائيل "بالممتلئة نعمة" (لو 1: 28). فهي البريئة من دنس الخطيئة الأصلية، بفضل النعمة الإلهية التي ملأتها منذ اللحظة الأولى لتكوينها في حشى أمها.
وهي البتول والأم بالقدرة الإلهية، إذ حبلت بكلمة الله بقوة الروح القدس، وظلت عذراء قبل الميلاد وفيه وبعده. وبذلك هي مثال الكنيسة الأم والبتول، وقدوتها في الايمان والرجاء والمحبة؛ ومثال الأمومة والأبوّة الروحيّة للذين يكرسون بتوليتهم لله وللكنيسة سواء في الكهنوت أم بنذر العفة في الحياة الرهبانية في الأديار أو في الحياة المكرّسة وسط العالم.
4. لقد أعلنتُ في عظة قداس التولية أن طريقي هو إيّاه الذي سلكه أسلافي البطاركة من القديس يوحنا مارون إلى غبطة أبينا مار نصر الله بطرس. وهو طريق واحد قائم على الأمانة للمسيح وانجيله، وللكنيسة وتعليمها، ولتراثنا الروحي والليتورجي واللاهوتي والتنظيمي الانطاكي السرياني.
وهو طريق غايتُه بناء ملكوت الله في أرض البشر، ولاسيما في لبنان وأرضنا المشرقية، حيث تجلّى كلُ سرّ الله الواحد والثالوث بشخص يسوع المسيح، الذي أعلن انجيل الخلاص من هذه الأرض، وغرس فيها صليب الفداء، وعليها أرسى أساسات ملكوت الله الذي يبدأ بالكنيسة كزرعه، ويكتمل في مجد السماء. لكنه طريق متنوع في الاوضاع والظروف المحدقة به والمرافقة له، وفيها الصعب والسهل، الحلوُ والمرّ، القبول والرفض. ومع ذلك، لا تنكسر أية حلقة من سلسلته الطويلة بفضل رسوخنا جميعًا في الإيمان ووعد المسيح لسمعان بطرس:"وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 16: 18).
لقد حرص بطاركتنا على حماية الأغليين: الإيمان الكاثوليكي والاستقلالية الذاتية في جبل لبنان تحت كل العهود المتنوّعة في صعوباتها ومحنها. الايمان هو بمثابة اللؤلؤة، والاستقلالية الذاتية بمثابة الوعاء الذي تحفظ فيه وتُحمى. إنّها مسيرة طويلة وصلت مع خادم الله البطريرك الياس الحويك إلى إعلان دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920، واكتملت مع البطريرك أنطون عريضة في سنة 1943 بالاستقلال الناجز وانهاء مرحلة الانتداب الفرنسي. والبطاركة أسلافهما يسهرون على حماية الاثنين: الايمان والوطن الروحي لبنان.
إننا في ظروفنا الراهنة بحاجة إلى مزيد من التعاون وبذل الجهود من أجل تعميق الإيمان المسيحي والالتزام بمقتضياته الروحية والأخلاقية عند شعبنا، وحماية الكيان اللبناني بخصوصيته التي تجعل منه نموذجًا ورسالة في محيطنا العربي وعلى المستوى الدولي.
واتّخذت شعارًا لخدمتي البطريركية "شركة ومحبة"، فسعيتُ بالمحبة إلى شدّ أواصر الشركة والوحدة مع جميع الأفرقاء السياسيّين والمدنيّين وجميع الطوائف المسيحية والإسلامية وزرتُ لهذه الغاية جميع أبرشياتنا في لبنان والشّرق الأوسط وبلدان الانتشار. وهو واجب تمليه القوانين الكنيسة على البطريرك ليقوم به كلّ خمس سنوات.
5. أما البرنامج الراعوي الذي أعلنت اتباعه فهو مواصلة تطبيق نصوص وتوصيات المجمع البطريركي الماروني الذي انعقد ما بين سنة 2003 و2006. وقد توزّعت أعماله على ثلاثة ملفات: يتناول الأول هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، وعيشها داخل النطاق البطريركي المشرقي وفي بلدان الانتشار؛ ويتناول الثاني التجدد الراعوي والروحي في الهيكليات والاشخاص والمساحات الراعوية؛ ويتناول الثالث الكنيسة المارونية في عالم اليوم، على مستوى التربية والتعليم والثقافة والسياسة والشأن الاجتماعي والاقتصاد والاعلام والارض.
6. فضلاً عمّا تقوم به الأبرشيات والرهبنات والمؤسسات التابعة لها من نشاطات تطبيقية لنصوص المجمع وتوصياته، فقد أنشأنا أمانة عامة ومكاتب متخصصة وفقًا لهذه النصوص في الدائرة البطريركية، ونظّمنا الإدارة في الكرسي البطريركي والأبرشية البطريركية بنياباتها الأربع وفي الوكالات البطريركية خارج لبنان والمؤسسات والأوقاف التابعة إداريًا للكرسي البطريركي وشؤون الموظفين والنظام المالي.
ووضعنا لها جميعًا أنظمة داخلية مفصّلة. وأسندنا إلى النائب البطريركي العام الاشراف على الأمانة العامة والمكاتب التي، بالاضافة إلى النشاطات المختلفة، أصدرت سنة 2015 أول "دليل للكنيسة المارونية"، وتصدر نشرة فصلية مصوّرة اسمها "صدى الدائرة". وعيّنا نائبًا بطريركيًا للشؤون القانونية والمحاكم، ونائبًا بطريركيًا للإشراف على القيمومة البطريركية وقطاعاتها، وعلى الشؤون الاقتصادية والقيّمين البطريركيين المحليين. كلّ ذلك من أجل القيام بالموجبات الراعوية والاجتماعية والروحية والكنسية.
7. وفعّلنا عمل المؤسسة الاجتماعية المارونية، التي يرأسها نائب بطريركي، بفتح قطاع جديد يعنى بالمشاريع الإنمائية إلى جانب القطاعين الآخرين: السكن والضمان الصحّي. كما فعّلنا أهداف المركز البطريركي للتوثيق والابحاث الذي يرأسه نائب بطريركي آخر. فأصدرنا معه وثيقتين تطبيقيتين للمجمع البطريركي الماروني: الأولى، "المذكرة الوطنية" تطبيقًا للنص المجمعي "الكنيسة المارونية والسياسة". والثانية "المذكرة الاقتصادية" تطبيقًا للنص المجمعي الآخر "الكنيسة المارونية والاقتصاد".
ونتابع مع هذا المركز والهيئات الاقتصادية المدنية في لبنان الشؤون الاقتصادية ومعاناة شعبنا، اهتمامًا منا بهذا الأمر لتقصير الدولة والحكومات المتعاقبة في الاهتمام بالاقتصاد القوي والمتين الذي يرعى القطاعات الانتاجية. فبعد دراسات معمّقة، صدرت توصيات في الملف الصحي الإستشفائي ستُعنى البطريركية بمتابعته لدى الجهات المختصة تنفيذًا وتشريعًا. ونحن اليوم في صدد دراسة الملف الزراعي واصدار توصياته.
أما النص المجمعي "الكنيسة المارونية والشأن الاجتماعي" فنحن في صدد إعداد رسالتنا الراعوية الخامسة بعنوان: "الكنيسة وخدمة المحبة الاجتماعية". وكنا نأمل نشرها اليوم كالعادة. لكن ظروفًا عملية قاهرة حالت دون ذلك.
8. ثم أنشأنا المؤسسة البطريركية العالمية للانماء الشامل التي تعنى بحماية الوجود المسيحي الفاعل في لبنان بإنشاء مشاريع إنمائية وإيجاد فرص عمل والحدّ من النزوح إلى الساحل والهجرة. كما أعطينا دفعًا جديدًا للمؤسسة البطريركية للانتشار من خلال زياراتنا الراعوية للخارج.
وأولينا اهتمامًا خاصًا باكليريكية غزير البطريركية مع رئيسها والآباء المعاونين والمطران المشرف، فوسّعنا أبنيتها وثبّتنا قوانينها وجدّدنا هيكليتها، فيما نشهد ازديادًا نوعيًّا في الدعوات الكهنوتية، كما نشهده أيضًا في رهبانياتنا. وهذه نعمة كبيرة من الله. أمّا اللجنة البطريركية للشؤون الليتورجية فقد جدّدنا تكوينها ولجانها بالتعاون مع سيادة رئيسها.
وتطبيقًا للنص المجمعي عن "الليتورجيا"، خصصنا رسالتنا العامة الثالثة لسنة 2014 لموضوع "الليتورجيا المارونية ليتورجية الكنز الحي" بكل مضامينها اللاهوتية والروحية والراعوية وبرموزها ومعانيها. ونجدّد اليوم طلب التقيّد بتوجيهاتها.
وتعمل اللجنة الأسقفية القانونية على انجاز الشرع الخاص بكنيستنا المارونية، انطلاقًا من نصوص المجمع البطريركي وتوصياته، استكمالًا "للشرع الخاص" الذي نشره سلفنا صاحب الغبطة والنيافة سنة 1996، وهو الساري المفعول حاليًا.
9. إننا نقدّر كل ما قامت به وما زالت الأبرشيات والرهبانيات والمؤسسات في عملية التجدّد والتطبيق لتعاليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته، ولا سيما المجامع التي عقدتها بعض الأبرشيات. ونشكر الله على ما نشهد من حيوية روحية وراعوية وكنسية هي من ثمار المجمع وعمل الروح القدس وصلاة شعبنا. ونثمّن عمل "لجنة المجمع البطريركي الماروني" التي تتابع عملية تطبيق التوصيات.
أما وقد مضى عشر سنوات على ختام هذا المجمع، فبات من الضرورة أن نعقد خلوة تقييمية لما أُنجز ولتحديد ما يجب انجازه، استكمالاً لتطبيق نصوصه وتوصياته كافة. وإننا نضع هذا المشروع في عهدة "لجنة المجمع"، راجين من الجميع موآزرتها في كل ما يلزم.
10. في عيد بشارة أمنا مريم العذراء، نصلّي لكي تظل كنيستنا في لبنان وبلدان الشرق الأوسط وعالم الانتشار بشرى خير وسلام، وتعمل على شدّ روابط المحبة والوحدة بين أبنائها وبناتها، ومع جميع الناس. فنرفع معها نشيد التعظيم لله القدير الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.