الرياضة الروحيّة: لنضع عطشنا في الله

متفرقات

الرياضة الروحيّة: لنضع عطشنا في الله

 

 

 

الرياضة الروحيّة: لنضع عطشنا في الله

 

 

 

 

بدأت عصر الأحد الثامن عشر من شباط الرياضة الروحية السنويّة للأب الأقدس وأعضاء الـ"كوريا" الرومانية في بلدة أريتشا القريبة من روما والتي تمتدُّ لغاية الثالث والعشرين من شباط فبراير الجاري تحت عنوان "مديح العطش" ويقدّم تأملاتها هذه السنة الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا البرتغالي؛ وقد افتتحها بالتأمل الأول تحت عنوان "مُتدرِّبون على الدهشة" والذي تمحور حول اللقاء الذي تمَّ بين يسوع والمرأة السامريّة قرب بئر يعقوب.

 

قال الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا إن يسوع الجالس على حافة بئر يعقوب يطلب من المرأة السامريّة "اِسقيني" يُدهشنا؛ يهوديٌّ يتحدَّث مع امرأة من السامرة التي كانت معروفة بالمخالفات التي كانت تتعارض مع اليهود؛ يدهشنا كيف يتوجّه يسوع إلينا ليطلب منّا: "أعطني ما لديك، إفتح قلبك، أعطني ما أنت عليه".

 

يولِّد فينا طلب يسوع بعض الشكّ لأننا نحن الذين جئنا لنشرب من البئر ونعرف أنَّ العطش هو تعب وعوز. لكنَّ يسوع كان قد تَعِبَ مِنَ المَسير، فَجَلَسَ دونَ تَكَلُّفٍ على حافَةِ البِئر. وفي الإنجيل، جميع الذين يجلسون ويطلبون هم متسوِّلون. ويسوع يتسوَّل أيضًا وجسده يختبر التعب اليومي ويحتاج إلى عناية الآخرين المُحبّة وبالتالي فليس الإنسان وحده متسوِّلاً لله وإنما الله أيضًا هو متسوِّل للإنسان.

 

 في ضعفه جاء يسوع ليبحث عنا؛ وبالتالي في ظلمة ضعفنا الحالكة نحن نشعر بعطش يسوع الذي يبحث عنا ويفهمنا. إنه ليس عطش إلى الماء بل هو أكبر من ذلك، إنه عطش يريد أن يبلغ عطشنا ويلتقي بجراحنا ويطلب منا "اِسقيني"، فهل سنعطيه ليشرب؟ هل سنسقي بعضنا البعض؟ نحن نعرف أننا مدعوون لأنَّ الرب هو الذي يبادر ويأتي للقائنا، وبالتالي بقدر ما تكون رغبتنا كبيرة، تكون رغبة الله أكبر منها، وعندما أخبر يسوع المرأة عن حقيقة حياتها، هذا الأمر لم يُهِنها ولم يشلَّها، بل على العكس شعرت أنّ النعمة قد افتقدتها وأن حقيقة الرب قد حرّرتها.

 

 لنشعر إذًا بعناق الله لأنَّه يعرف أننا هنا، ولننسى خلال هذه الأيام جميع ما تعلّمناه لنتعلّم تلك النعمة التي تجعل الحياة ممكنة في داخلنا، ولنرفع الصلاة من قلوبنا: "أنا هنا يا ربّ ولا أنتظر شيئًا" كمن يقول له "أنا أنتظرك أنت فقط وأنتظر ما ستعطيني إيّاه".  

 

 

 

أمّا التأمّل الثاني الذي قدّمه الأب تولينتينو صباح اليوم الإثنين فقد تمحور حول الجملة الأخيرة من سفر الرؤيا "مَن كانَ عَطشانَ فليَأتِ" وحمل عنوان "علم العطش". قال الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا إنَّ يسوع يأتي للقاء تاريخنا هكذا كما هو بنقصه وفراغه وفشله ليقول لنا: "مَن كانَ عَطشانَ فليَأتِ، ومَن شاءَ فليَستَقِ ماءَ الحَياةِ مَجَّانًا". هذه الدعوة قد وجِّهت ولكن الله أعلم كم هي العوائق الداخلية التي تُعيقنا وكم من التيارات تؤخِّرنا. نحن قريبون من النبع ولكننا نتركه ونذهب بعيدًا عنه، ونضيع في أماكن قاحلة بحثًا عن الجدول الذي يروينا ونتجاهل "عطاء الله"؛ "لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً".

 

تابع الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا يقول إن صدى الجملة الأخيرة من سفر الرؤيا لا زال يتردّد فينا: "مَن كانَ عَطشانَ فليَأتِ، ومَن شاءَ فليَستَقِ..." هؤلاء هم نحن ولربما أهمُّ ما في الأمر هو أن نعترف حقيقة بمدى عطشنا ورغبتنا لله. يقول لنا يسوع: "مَن شاءَ فليَستَقِ..." فهل نريد الله؟  يكتب الأب هنري دو لوباك: "إن وُجدت في طبيعتنا رغبة في رؤية الله فذلك لأن الله يريدنا أن نراه، وهذه الرغبة هي التي تعطي معنى لحياتنا البشريّة".

 

وبالتالي من الأهميّة بمكان أن نذكّر العطاش أنَّ هناك علم للعطش، وأنَّ العطش، من وجهة نظر تقنيّة، تطبعه أحاسيس داخليّة معقّدة يولّدها الاجتفاف فينا ويصلحها الإمهاء (تعويض السوائل). ولذلك فإن السؤال الذي يطرحه الأطباء باستمرار على المرضى من جميع الأعمار: "ما هي كميّة المياه التي تشربها خلال النهار؟" وعادة نشرب دائمًا كميّة أقل من التي ينبغي علينا شربها. وهذا السؤال يصلح أيضًا على المستوى الروحي، فهل يمكننا أن نعرف عطشنا. يكتب القديس يوحنا الصليب يمكننا أن نشرب أيضًا في الظلام، لأنَّ عطشنا ينير الينبوع، فماذا يعلِّمنا عطشنا إذًا؟

 

ليس من السهل علينا أن نعترف بعطشنا. لأنَّ العطش هو ألم نكتشفه شيئًا فشيئًا في داخلنا ويكمن خلف رواياتنا العقيمة والمثاليّة؛ إنّه ألم قديم نحمله في داخلنا ينتعش وحده ويُضعفنا. إنَّ ألم عطشنا هو ألم الضعف الأقصى، أي عندما تسحقنا محدوديّتنا. إن عطش إنسان اليوم هو الابتعاد عن ما هو أساسي وجوهري ويتحول إلى عدم القدرة على التمييز، وبالتالي فالاستهلاك ليس ماديًّا وحسب بل هو أيضًا روحي، وما نقوله عن الأول يساعدنا في فهم الثاني.

 

في الواقع إن مجتمعاتنا تضع الاستهلاك كمعيار للسعادة محوِّلة هكذا الرغبة إلى فخ وبالتالي في كلِّ مرّة نسعى لإرواء هذا العطش في شراء أو تملُّك يزداد الفراغ في داخلنا. إنَّ موضوع رغبتنا هو شيء ينقصنا على الدوام ومع ذلك يكرّر الرب قوله لنا قائلاً: "مَن كانَ عَطشانَ فليَأتِ، ومَن شاءَ فليَستَقِ ماءَ الحَياةِ مَجَّانًا".

 

 "مَن كانَ عَطشانَ فليَأتِ..." من المؤكَّد أننا لا نشرب فقط لنروي عطشنا أو لنعوِّض السوائل في جسمنا؛ إذ أننا وفي مناسبات عديدة نشرب لأنَّ الأمر يُنعشنا. وكما أنَّ جوعنا ليس للخبز وحده كذلك عطشنا ليس للماء وحده؛ وهذا الأمر يجعلنا نفكّر بالمعنى الأنتروبولوجي للمائدة التي تلعب دورًا أساسيًّا في بناء بشريّتنا. وبالتالي، لم يكن من باب الصدفة أن يضع يسوع المائدة في محور الاحتفال بالإيمان المسيحي. لماذا وُجدت المائدة؟ لماذا نجلس إلى المائدة مع بعضنا البعض لتناول الطعام؟ ليس بالضروريّ أن تكون هناك أسباب ماديّة أو اقتصاديّة وإنما هناك وبشكل خاص أسباب حياتيّة: نجلس إلى المائدة معًا لأننا لا نغتذي بالأكل فقط وإنما من بعضنا البعض أيضًا. حول المائدة نغذي بعضنا البعض بغذاء خفي وهو العلاقة.

 

إن ما نقوله عن الأكل يصلح تمامًا للشرب؛ ويسوع المعلّم في علم العطش قد أكّد لنا: "من سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع". إنَّ يسوع يعرف أن كأس ماء بسيط نعطيه أو نناله ليس أمرًا تافهًا، بل هو تصرُّف يحاور أبعاد الحياة العميقة لأنّه يلاقي العطش الموجود في كلِّ كائن بشريّ: العطش إلى العلاقة والقبول والحبّ! جميعنا نحمل عطشًا ما في داخلنا، إنّه إرث قد دعينا للاعتراف به ونكون ممتنين عليه. لنضع إذًا عطشنا في الله! 

 

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.