في إطار الرياضة الروحية السنويّة للأب الأقدس وأعضاء الـ "كوريا" الرومانية ألقى الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا تأمُّله الخامس عصر الثلاثاء تحت عنوان "عطش يسوع" والذي تمحور حول نص الإنجيلي يوحنا الذي نقرأ فيه "وبَعدَ ذلك، كانَ يَسوعُ يَعلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ قدِ انتَهى، فلِكَي يَتِمَّ الكِتاب، قالَ: "أَنا عَطشان". وكانَ هُناكَ إِناءٌ مَملوءٌ خَلاًّ. فوَضَعوا إِسفَنجَةً مُبتَلَّةً بِالخَلِّ على ساقِ زوفى، وأَدنَوها مِن فَمِه. فلَمَّا تَناوَلَ يسوعُ الخَلَّ قال: "تَمَّ كُلُّ شَيء" ثُمَّ حَنى رأسَهُ وأَسلَمَ الرُّوح".
تابع الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا يقول لقد فسَّر آباء الكنيسة هذا العطش على أنّه عطش جسدي، إذ أنَّ العطش الجسدي يؤكِّد بشكل مقنع أنَّ يسوع هو من لحم وعظم كأي رجل آخر. لكنَّ الكُتَّاب المعاصرين قد أصرُّوا على المعنى الرمزي والروحي لعطش يسوع كمفتاح حيوي لفهم المعنى العميق لموت يسوع في إنجيل يوحنا. في إنجيله يستعمل يوحنا فعل "يعطش" لثلاثة مرات في اللقاء مع المرأة السامريّة وفي حديثه الذي يعلن فيه أنّه خبز الحياة وختامًا في الهيكل خلال عيد المظال.
في اللقاء مع السامريّة نجد تبادل أدوار لا يمكننا أن نغضَّ النظر عنه: يسوع يطلب أن يشرب ولكنّه هو الذي يعطينا لنشرب. إنَّ رغبته تشير إلى عطش آخر كما شرح للمرأة إذ قال: "لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً". وعلى الجلجلة أظهر يسوع فورًا رغبته في الشرب وقال بوضوح "أنا عطشان!"، ومع ذلك كانت ردّة فعل الحاضرين عدم تفهُّم كامل إذ بدل الماء أعطوه خلاً.
قرب بئر يعقوب كانت رغبة يسوع في الشرب تعني رغبته في إعطاء الماء الحيّ. في الواقع وفي اللقاء مع السامريّة ينطفئ عطش يسوع عندما يعلن عن نفسه أنّه نبع الماء الحي ويفتح على وعد عطيّة الروح القدس. إن التشابه مع الإعلان الأخير على الصليب يجعلنا نفهم أنَّ عطش يسوع هو من النوع نفسه: هو عطش تسليم الروح ونقله للآخرين. في الواقع إنَّ العطش الذي يتحدّث عنه يسوع هو عطش جوهري لا يرتوي إلا عندما يدمج حياته بحياتنا. وبالتالي فالعطش هو عطش إليه ونحن مدعوون لنعيش محوريّة كريستولوجيّة: أي أن نخرج من ذواتنا ونبحث في المسيح عن المياه التي تُطفئ عطشنا وتجعلنا نتغلّب على تجربة المرجعيّة الذاتيّة التي تجعلنا نمرض.
لماذا يقول يسوع للكنيسة أنّه عطشان؟ عطش يسوع على الصليب يسمح لنا بفهم العطش الذي يقيم في القلب البشري ويُعدُّنا لخدمته، عطش يسوع ينير ويجيب على عطش الله ونقص المعنى والحقيقة والرغبة التي تقيم في كل شخص بشري في أن يخلُص – حتى وإن كانت رغبة خفيّة أو مدفونة تحت حطام وجوديّة. ولذلك هذه الـ "أنا عطشان!" التي قالها يسوع تشكل فصل واجبات لكنيسة كلِّ زمن ولاسيما لكنيسة زمننا.
الروح القدس لا زال يُسمعنا صوت يسوع القائل "أنا عطشان!" إنّه روح الحق والمعزّي والذي يدافع في داخلكم عن بشرى الإنجيل السارة والمُحرِّرة. إنَّ الروح القدس يُفعِّل فينا القدرة على الإيمان والرجاء والبقاء أمناء للحب. الروح القدس هو ديناميكيّة القائم من الموت فينا؛ إنّه استمراريّة هذا التاريخ، وإبداعه يزرع فينا عطايا ومواهب مختلفة لكي نبني ملكوت الله حيثما وجدنا.
عطش يسوع هو عطش للحب للأشخاص كما هم بفقرهم وجراحهم، بأقنعتهم وأساليبهم في حماية أنفسهم وبجمالهم أيضًا. عطش يسوع هو أن نعيش ممتلئين بالفرح وأن يكسر السلاسل التي تغلقنا في الذنب والأنانيّة وتمنعنا من التقدّم في الحريّة الداخليّة؛ عطشه هو أن يحرّر الطاقات الكامنة فينا لكي نصبح رجال ونساء شفقة وصانعي سلام!
أما تأّمل الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا السادس والذي ألقاه صباح يوم الأربعاء فحمل عنوان "الدموع تخبر عن العطش" وقد تمحور حول معنى الدموع في حياة الإنسان وعلاقته مع الله إنطلاقًا النساء ودموعهنَّ في إنجيل القديس لوقا وقال تُظهر الدموع عطشًا إلى الحياة والعلاقات.
مريم وأرملة نائين والخاطئة وغيرهن من النساء اللواتي لا يمكننا تجاهلهنَّ في الإنجيل، مختلفات بحسب أوضاع حياتهنَّ وأعمارهنَّ وفي أسلوبهنَّ في التصرُّف ولكنّهن يبشرنَ؛ أسلوبهنَّ هو الخدمة ولا يطرحنَ الأسئلة أبدًا على يسوع؛ تجمعهنَّ فقط دموعهنَّ التي تعبِّر عن مشاعرهنَّ ونزاعاتهنَّ، أفراحهنَّ وجراحهنَّ. تخبرنا الدموع أن الله يتجسّد في حياتنا وفي فشلنا ولقاءاتنا. في الإنجيل نرى يسوع أيضًا يبكي؛ يسوع قد أخذ طبيعتنا وصار واحدًا منا ولذلك تندرج دموعنا في دموعه وبالتالي عندما يبكي هو يجمع دموع العالم بأسره.
منذ عمر الطفولة تشير الدموع إلى عطش إلى العلاقات؛ ويقول الفيلسوف شوران إنَّ الدموع وحدها هي التي ستعطي معنى أبديّة لمصيرنا، وإنَّ عطيّة الدين هي أن يعلِّمنا أن نبكي لأنّه بإمكان الدموع أن تجعلنا قديسين.
وبالتالي، يمكننا أن نخبر قصّة حياتنا من خلال الدموع: دموع الفرح ودموع التأثُّر، دموع الليل المُظلم ودموع الترك، ودموع التوبة والندامة. لنفكر في الدموع التي ذرفناها وبتلك التي لا تزال تخنقنا إن الله يعرفها كلّها ويقبلها كصلاة نرفعها إليه فلا نخفينَّها عنه!
إذاعة الفاتيكان.