في إطار الرِّياضة الروحيَّة السنويّة للأب الأقدس وأعضاء الـ"كوريا" الرومانيّة ألقى الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا تأمُّله الثالث عصر الإثنين تحت عنوان "لقد أدركت أنّني عطشان" والذي تمحور حول نصّ النبيّ أشعيا: "كما ينزل المطر والثلج من السّماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعا للزارع وخبزا للأكل" (أشعيا 55، 10).
وتوقّف عند الأفعال الثلاثة يروي، يلد ويعطي زرعًا وقال إنّها أفعال تصف تحولاً حقيقيًّا لأنَّ الأرض لا تبقى كما كانت عليه؛ وبقدر ما يكون الجفاف كبيرًا يُصبح من الصعب على المياه أن تدخل إلى جوف الأرض ولذلك لا يجب أن نخاف من الاعتراف بعطشنا وجفافنا.
في تقييمنا لعطشنا يمكن للأدب أن يساعدنا؛ إذ يمكن للأدب أن يشكّل إستعارة شاملة للحياة على مختلف مستوياتها. والحياة الروحيّة تتقدّم فقط عندما تكون إعادة قراءة لحياتنا بكاملها. ثانيًا يمكن للأدب أن يعطينا معرفة ملموسة تمامًا كما أن الحياة الروحيّة ليست إيديولوجيّة. ثالثًا الأدب هو أداة دقّة لأنّه يعمل على مستوى الفرديّة والحريّة وكذلك فالحياة الروحيّة ليست أمرًا جاهزًا بل هي تطال فرديّة كلِّ شخص.
عندما نتحدّث عن العطش نحن نتحدّث عن الحياة الحقيقيّة؛ لأنَّ العطش يعبِّر عنّا. لكن قد يصعب علينا أن نُقرَّ بعطشنا لاسيّما وعندما ويبدو أنَّ كلَّ شيء يسير قدمًا بدون تقلبات ولذلك نتصرّف بإحراج ونسأل أنفسنا: إلى ماذا نعطش؟ إلى من نعطش؟ إنّ الإصغاء إلى عطشنا هو ترجمة للرَّغبة التي في داخلنا.
ماذا يحصل عندما نحبّ؟ هذا ما يحصل: إنّ الحبّ يرغب الخيور التي لا يملكها، وبالتالي فدعوة من يحبّ هي دعوة باحث متسولٍّ ينطلق في مسيرته فارغ اليدين. نال فقط الموارد ليجذب وينجذب، أي نال العطش وهكذا يعيش، ولذلك علينا أن نميِّز بين الرّغبة والحاجة وألا نخلط بينهما.
رغبة الإنسان هي عطشٌ مختلف: إنّها الرَّغبة بأن يُحبَّ ويُنظَر إليه ويتمَّ الاعتناء به والاعتراف به. أن نكون بشرًا يعني أن نشعر أنَّ حياتنا تقوم على هذا الاعتراف أكثر من أي شيء آخر ولذلك نصبح مستعدّين للمخاطرة بكلِّ شيء حتى بحياتنا. لكن عندما يتحوّل الشّغف والفرح إلى مجرَّد استهلاك جامح ينطفئ العطش وتخمد الرَّغبة وتفقد الحياة أفقها.
هل نشكّل نحن المعمّدون جماعة أشخاص تحرّكهم الرَّغبة؟ هل يحلم المسيحيّون؟ إنّ الكنيسة هي مختبر للرُّوح القدس حيث، وكما يقول النبيّ يوئيل، يَتَنَبَّأُ بَنُونا وَبَنَاتُنا، وَيَحلَمُ شُيُوخُنا أَحلامًا. لكن هل تجوع الكنيسة وتعطش إلى البرّ؟ وهل ينتظر المسيحيّون حقًا بحسب الوعد "سَمَواتٍ جَديدةً وأَرضًا جديدةً يُقيمُ فيها البِرّ" (2 بط 3، 13). وما هو موقفنا إزاء "الحلم الرسوليّ ببلوغ الجميع" هذا العطش الذي يضعه الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل في قلب الكنيسة كبرنامج مليء بالتحديات لزمننا الحاضر؟ يقدّم لنا المزمور الـ42 صورة أولى لهذا العطش "كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه"؛ لكن يكتب القدّيس بولس في رسالته أيضًا: "الخَليقةُ تَنتَظِرُ بِفارِغِ الصَّبْرِ تَجَلِّيَ أَبناءِ اللّه" وبالتالي فالخليقة كلّها تجتاحها هذه الرَّغبة العميقة وهذا التوق الأساسي.
علينا نحن المسيحيِّين ولاسيَّما نحن الرّعاة أن نقيِّم روحانيّة العطش، نحن بحاجة لنجد مجدّدًا الرَّغبة ومسيرتها وانفتاحها، كما علينا أن نتصالح مع ضعفنا؛ لأنَّ معانقة ضعفنا هي الدّخول في الرَّغبة في أن يتمَّ التعرُّف علينا ولمسنا تمامًا كالأبرص الذي اقترب من يسوع وكحماة بطرس والمرأة النازفة والذين كانوا يصرخون "رُحماك يا ابن داود!" أو كالأعميين على طريق أريحا اللّذين أجابا عندما سألهما يسوع "ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لَكُما؟" فأجابا: "يا رَبّ، أَن تُفتَحَ أَعيُنُنا!".
أمَّا التأمل الرّابع والذي ألقاه الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا صباح يوم الثلاثاء فقد حمل عنوان "غياب العطش الذي يُسقمنا" والذي تمحور حول الفتور، أي عندما نفقد العطش ونبدأ بالموت؛ فنفقد الرَّغبة باللقاء والحوار والخروج من ذواتنا وينقص انفتاحنا على ما هو جديد فيصبح كل شيء كـ"شيء سبَقَت رُؤيَتُه" يسحقنا.
وتمتدُّ المشكلة ليصبح المرء في الحالة التي تُسمى باللغة الإنكليزيّة "burnout" والذي يعني أرضًا محروقة، مفرغة من الطاقة والقدرة الخلاقة؛ وهذا الانهيار العاطفيّ قد يضرب الكثيرين من يقدّمون حياتهم في سبيل العناية بالآخرين ومن بينهم العديد من الكهنة.
تابع الأب جوزيه تولينتينو دي مندوسا مُعدِّدًا أسباب هذه الحالة وقال أولاً الثقل المفرط للإنتظارات الشخصيّة ولانتظارات الآخرين؛ نوعيّة أو غياب الحياة الروحيّة؛ المهام الصعبة، الخوف من حكم الآخرين، العزلة العاطفيّة وغياب التضامن بين الأشخاص وعدم القدرة على التواصل.
لذلك من الأهميّة بمكان ألا ننسى أبدًا أن قلبنا البشريّ ضعيف وهشّ؛ وأنّنا عندما نشعر بأنّنا محبوبين كأشخاص فريدين وعندما نشعر بأنَّ هناك من يعتني بنا ويرافقنا تصبح لدينا الثقة بأنّنا أحياء، ولكن عندما نشعر بأنّنا متروكين ومُهمَلين وأن لا أحد يفهمنا ولا أحد يهتمُّ لأمرنا يستولي علينا الفراغ ويتملَّكنا اليأس.
العلاج الأفضل لاستعادة الرّغبة هو الاستعانة بالمرح والفكاهة. وهذه هي الرَّسالة التي يعطينا إيَّاها الكتاب المقدّس من خلال النبيّ يونان، إذ لا يخاف من أن يُظهر لنا حوار الصُمِّ الذي غالبًا ما نعيشه مع الله على مثال يونان؛ فلا نسمع الله لأنّنا لا نسمح لمشيئته بأن تطالنا وتؤثر بنا، ولا نفهمه لأنّنا لا نريد أن نفهم منطق الرَّحمة خاصّته والذي يتعارض بالتأكيد مع منطقنا ولذلك عندما يدعونا الله لنذهب إلى مكان ما نذهب إلى مكان آخر تمامًا كيونان، "وصار قول الربّ إلى يونان بن أمتاي قائلاً: "قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنّه قد صعد شرّهم أمامي"؛ فقام يونان ليهرب إلى ترشيش".
إن سفر النبي يونان يجعلنا نبتسم؛ وأن نضحك بشكل سليم على أنفسنا بدل من أن نصنع مأساة من كلِّ شيء وبلا سبب؛ ويقول لنا أنَّ الحكمة تقف في صف الذين يبشِّرون بالرّجاء؛ ولكن هناك مسيرة علينا القيام بها.
وبالتالي يكتب القدّيس إفاغريوس البنطي: "كما لا يمكن للمبارز أن ينال الإكليل ما لم يحارب، هكذا أيضًا لا يمكننا أن نكون مسيحيّين بدون جهاد" ويضيف: "من لا يتحمّل الاضطهادات محبّة بالرّب لن يدخل عرس المسيح".
وفي الإطار وفي حياة القدّيس أنطونيوس الكبير أب الرّهبان، هناك لحظة يمثُل فيها مندهشا أمام المسيح ويقول له: "أين كنت يا ربّ؟ لماذا لم تظهر منذ البداية لتضع حدًّا لآلامي؟" فأجابه الرَّبّ: "لقد كنت هنا يا أنطونيوس! ولكنّني كنت أنتظر لأراك تحارب!". فالجواب إذًا هو في يسوع، وفي العلاقة معه التي ينبغي أن تمرَّ بآلامه، فينضج قلبنا في القدرة على الحبّ والتألُّم من أجل الذين نحبّهم على مثاله.
إذاعة الفاتيكان.