تحتفل الكنيسة في هذا الأحد، بعيد الرّسل الإثنيّ عشر، أعمدة الكنيسة. هؤلاء استودعهم الرَّبُّ يسوع رسالة الخلاص التي أتمّها، لكي يواصلوها هم وخلفاؤهم، باسمه وبشخصه، ومعهم انطلق التّقليد الرَّسولي الحيّ، وهو أنّ المسيح الذي فيه اكتمل كلّ الوحي الإلهيّ، وأعلن إنجيل الخلاص بفمه، أمرهم بإعلانه لجميع النّاس، كمصدر لكلّ حقيقة خلاصيّة، وكقاعدة أخلاقيّة للحياة. ومنحهم لهذه الغاية مواهبه بالرّوح القدس (كتاب التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 75).
أولاً، شرح الإنجيل
من إنجيل القديس متى 10: 1-7
قال متَّى الرَسُول: دَعَا يَسُوعُ تَلامِيْذَهُ الاثْنَي عَشَر، فَأَعْطَاهُم سُلْطَانًا يَطْرُدُونَ بِهِ الأَرْوَاحَ النَجِسَة، ويَشْفُونَ الشَعْبَ مِنْ كُلِّ مَرَضٍ وكُلِّ عِلَّة. وهذِهِ أَسْمَاءُ الرُسُلِ الاثْنَيْ عَشَر: أَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذي يُدْعَى بُطْرُس، وأَنْدرَاوُسُ أَخُوه، ويَعْقُوبُ بنُ زَبَدَى، ويُوحَنَّا أَخُوه، وفِيْلِبُّسُ وبَرْتُلْمَاوُس، وتُومَا ومَتَّى العَشَّار، ويَعْقُوبُ بنُ حَلْفَى وتَدَّاوُس، وسِمْعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذي أَسْلَمَ يَسُوع. هؤُلاءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُم يَسُوع، وقَدْ أَوْصَاهُم قَائِلاً: «لا تَسْلُكُوا طَرِيقًا إِلى الوَثَنِيِّين، ولا تَدْخُلُوا مَدِيْنَةً لِلسَامِرِيِّين، بَلِ اذْهَبُوا بِالحَرِيِّ إِلى الخِرَافِ الضَالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل. وفِيمَا أَنْتُم ذَاهِبُون، نَادُوا قَائِلين: لَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَمَاوَات».
1. "تلاميذ يسوع" أصبحوا "رسله" بإرسالهم حاملين السّلطان الإلهيّ. هؤلاء دعاهم واختارهم وأرسلهم. ثلاثة أفعال تدلّ على مصدر إلهيّ واحد. وهي أفعال تتجدّد في كلّ دعوات الحياة، أكانت دعوة إلى الخدمة الكهنوتيّة والأسقفيّة، أم إلى حالة التّكريس الرّهباني على خطى المسيح في طريق المحبّة الكاملة، أم إلى الزواج وإنشاء عائلة، لخدمة الحياة البشريّة إيلادًا وتربية. لكنّه لا يدعو مرّة في البداية، بل يجدّد الدّعوة كلّ يوم وفي كلّ ظرف وحالة. وكونه هو الذي يدعو فهو أيضًا يساعد ويؤيّد.
2. أعطاهم سلطانًا مزدوجًا: طرد الأرواح الشّريرة، وشفاء الشّعب من مرضه وعلله (الآية 1). هذا السّلطان يشمل كلّ ما يعاني منه النّاس في أجسادهم وأرواحهم ونفوسهم. وأسّسَ لهذه الغاية سرَّي الشّفاء، وهما سرّ التوبة للشفاء من الخطايا، وسرّ مسحة المرضى لشفاء النفس والجسد. واتّسعت خدمة الكنيسة الشّافية بإنشاء مؤسّسات إجتماعيّة: المدارس والجامعات للشفاء من الأمّية، والمستشفيات والمستوصفات للشفاء من الأمراض والأوجاع، ودور المُسنّين واليتامى والحالات الخاصّة لشفائهم من الوحشة والإعاقة والإهمال. وكما أنّ شفاء الجسد وشفاء النّفس يعيد إليهما حالة جديدة كأنّها ولادة جديدة، كذلك عمل المؤسّسات المذكورة يُعطي علومًا وتربية، وصحّةً، وفرحًا وعزاءً وطاقاتٍ ومهارة وقدرات.
3. أمّا الرُّسل الاثنا عشر فهم (الآيات 2-4):
أَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذي يُدْعَى بُطْرُس،
يؤكّد يسوع أوّليّة بطرس في قيادة شعب الله نحو الخلاص. "بطرس" يعني الصّخرة الثابتة. من هنا فهمت االكنيسة عصمة قداسة البابا في الأمور العقائديّة. هي عصمة من الله نفسه، الذي يحمي الكنيسة ويخلّصها. الرُّوح القدس هو الذي يضمن المؤسّسة الكنسيّة، لأنّها مؤسّسة إلهيّة. فمن يشكّك بالكنيسة يشكّك بالرُّوح القدس الموكل إليه رعايتها.
وأَنْدرَاوُسُ أَخُوه، ويَعْقُوبُ بنُ زَبَدَى، ويُوحَنَّا أَخُوه،
يورد متّى أسماء الإثنيّ عشر عبر سياق مدروس. حسب تراتبيّة دور كلّ منهم في جماعة الرّسل. فهؤلاء الثلاثة، المذكورون بعد بطرس، شكّلوا معه الجماعة الرسوليّة الملازمة ليسوع، ومنها خرجت أغلب المبادرات. نجدهم في التجلّي وفي بستان الزّيتون. نجدهم يدعون باقي الرّسل لملاقاة يسوع، مخبرين بفرح: "وجدنا ماشيحا". وتوجّه يسوع إليهم بالسؤال قبل تكثير الخبز والسّمك. وإيّاهم توسّط الوفد اليونانيّ لرؤية يسوع.
ترتسم أمامنا صورة "هرميّة الكنيسة": لكلّ واحد موقعه ودوره. لذلك، الطاعة هي فضيلة أساسيّة وضروريّة في الكنيسة؛ هي التي تحافظ على وحدتها وعلى هرميّتها. فينبغي على كلّ واحد منّا أن يحيا هذه الطاعة من الموقع الذي وضعه الله فيه.
وفِيْلِبُّسُ وبَرْتُلْمَاوُس، وتُومَا ومَتَّى العَشَّار، ويَعْقُوبُ بنُ حَلْفَى وتَدَّاوُس، وسِمْعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذي أَسْلَمَ يَسُوع.
4. يلفت نظرنا في جماعة الرّسل أنّهم لم يكونوا أساسًا قدّيسين. فمثلاً متّى كان عشّارًا، يجبي الضرائب، لا بل يأخذ من النّاس أكثر من الواجب، فيسرقهم.
ونجد من بينهم بعض المنتمين إلى حزب الغيارى، وهو حزب اعتمد المقاومة المسلّحة، بالخناجر ضدّ المحتلّ الرومانيّ وكلّ من يتعاون معه من اليهود. عُرف الغيارى بعنفهم ودمويّتهم. نجد بين الرّسل على الأقلّ سمعان الغيور ويهوذا الاسخريوطيّ، إذ إنّ لقبه "إسخريوطيّ" مشتقّ أغلب الظنّ من كلمة "إسكا" وهو اسم الخنجر الذي كان يستعمله الغيارى. كما أنّ الدراسات تشير إلى أنّ بطرس، الذي ضرب أذن عبد رئيس المجمع بالسَّيف، كان منهم. وأيضًا يعقوب ويوحنّا الملقّبين "بإبنيّ الرعد". من الملفت كيف أنّ يسوع لم يرفض كلّ هؤلاء الخطأة والدمويّين في جماعة الرُّسل. ولكنّه رفض عنفهم. رفض أيضًا دفاع بطرس عنه في بستان الزيتون، قائلاً له: "من يأخذ بالسَّيف، بالسَّيف يُؤخذ" (متى ٢٦: ٥٢). ثمّن المعلّم حماسة هؤلاء الشبّان ولكنّه رفض الأسلوب.
المسيح حوّل حياتهم وفتح لهم باب الخلاص. وهذا تأكيد آخر على أنّ يسوع قادر على معالجة كلّ أمراضنا الرّوحيّة، إذا ما فتحنا له طريق القلب. فخلاص الرّسل لم يأتهم بطريقة سحريّة، بل تجاوبوا مع الدّعوة ولبّوها وتركوا كلّ شيء وساروا وراء يسوع.
5. حدّد يسوع لرسله الطريق والأسلوب. أمّا الطّريق فالتّوجّه أوّلاً إلى الشّعب المؤمن اليهوديّ، المعروف يومها "ببيت إسرائيل": "لا تسلكوا طريقاً إلى الوثنيّين، ولا تدخلوا بيت السّامريّين، بل اذهبوا إلى الخراف الضّالّة من بيت إسرائيل" (الآيتان 5 و6).
هذا للدّلالة أنّ الرّسالة الحقيقيّة تبدأ في الداخل ثمّ تنطلق إلى الأبعد، عملاً بالقول: "أيّها الطّبيب طبِّب نفسك" (لو4: 23). سيُرسل يسوع رسله والكنيسة في ما بعد إلى جميع الأمم والشّعوب (متى 28: 16؛ مر16: 15). مبدأ الأنجلة الجديدة، التي دعا إليها القدّيس البابا يوحنّا الثاني، هو البدء من البيت الدّاخلي، من المجتمعات المسيحيّة التي ابتعدت عن الإنجيل، وممارسة العبادة والأسرار في يوم الربّ، وعن أخلاقيّات الحياة المسيحيّة.
أمّا الأسلوب فهو المناداة بملكوت الله: "نادوا في الطريق وقولوا: لقد اقترب ملكوت السّماوات" (الآية 7). ملكوت السماوات هو دخول الله في حياة الإنسان، والإنسان في حياة الله، أي الإتّحاد بين الله والإنسان. "ملكوت الله في داخلكم" (لو17: 21). إنّه ملكوت القداسة والسّلام. وانطلاقـًا من هذا الإتّحاد بالله، ومن السّلام في داخل الإنسان، تبدأ رسالة بناء ملكوت الله في المجتمع البشريّ. وهو ملكوت المحبّة والحقيقة والعدالة والحريّة والتضامن والتكامل.
* * *
ثانياً، الجمعيّة العامّة لسينودس الأساقفة الخاصّة بالشبيبة (تشرين الأوّل 2018)
نكمّل نقل مضمون الفصل الثاني من وثيقة "الخطوط العريضة". فتتناول موضوع "هبة التمييز".
1. يُمارس التمييز في إطار اتّخاذ القرارات وتوجيه الأفعال في ظروف التردّد، تجاه دوافع داخليّة متعاكسة. لكن التمييز على أنواع: فثمّة تمييز علامات الأزمنة الرّامي إلى معرفة حضور الرُّوح القدس وفعله في العالم؛ والتمييز الأخلاقي الذي يميّز بين ما هو خير وما هو شرّ؛ والتمييز الرُّوحيّ الذي يدرك وجود التجربة، فيطردها، ويواصل السَّير نحو ملء الحياة.
2. أمّا التمييز الذي يعني الشاب والشابة فهو الذي يتمّ بالحوار مع المسيح، وبسماع صوت الرُّوح، فيمكّنهما من اختيار حالة حياته من بين خيارات أساسيّة. السؤال الأساسيّ هو كيف يعيش الشاب أو الشابة بُشرى الإنجيل السّارة، ويجيب على النداء الذي يوجّهه إليه الله، أكان في الزواج، أم الكهنوت، أم الحياة المكرّسة. ثمّ ما هو القطاع الذي يحقّق فيه مواهبه: المهنة، التطوّع، خدمة "الصغار"، الالتزام السياسيّ؟
3. ثلاث كلمات تحدّد مسار تمييز الدّعوة: المعرفة والتفسير والخيار، من خلال أحداث حياة كلّ شخص التي بواسطتها يكلّمه الرُّوح ويفعل.
أ- المعرفة
تعنى بما تنتج أحداث حياتي، التي تأتي من الأشخاص الذين ألتقيهم ومن الكلمات التي أسمعها أو أقرأها، في أعماق كياني الداخليّ من مفاعيل: رغبات، عواطف، تأثرات. وكلّها من أنواع مختلفة: حزن، إرتباك، خوف، فرح، سلام، شعور بفراغ، حنان، غضب، أمل، فتور، وسواها. هذه تجتذبني في اتّجاهات مختلفة. ما يقتضي سماع كلمة الله والتأمّل فيها، للتمكّن من تمييز كلّ هذه المفاعيل.
ب- التفسير
تفسير هذه المفاعيل يعني فهم ما يدعو إليه الرُّوح. إنّها مرحلة دقيقة تقتضي الصَّبر والسَّهر وبعض التعلّم والانسجام مع الواقع والإمكانيات. فالواقع أعلى من الفكرة (فرح الإنجيل، 231). ومن الضّروريّ أيضًا الانسجام مع كلام الله والمقتضيات الأخلاقيّة المسيحيّة، من أجل إبراز المواهب والقدرات الخاصّة. إنّ عمليّة التفسير هذه تتمّ في نطاق حوار مع المسيح.
ج- الخيار
بعد تفسير الرّغبات والأهواء، يأتي الخيار كفعل ممارسة للحرِّية الإنسانيّة الأصيلة، والمسؤوليّة الشخصيّة، في إطار محدوديّتها، من دون الوقوع في تيّار النسبيّة الذي يولّد عدم الاستقرار، بل ينبغي بالأحرى الإخلاص مع الذات في اتّخاذ الخيار.
الخيار يقتضي ترجمته بالأفعال وبداية مسار، ولو كان محفوفًا بالمصاعب والأخطار. فلا يبقى هذا الخيار أسير الدّاخل، خوفًا من الصعوبات التي يثيرها ويواجهها. بل يجب "الخروج" من خوف الفشل أو الغلط، لئلّا نقع في حالة الرّكود.
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت مرسَل من الآب لخلاص العالم، اخترتَ رسلك الإثنَيّ عشر وأرسلتَهم يحملون باسمك وبشخصك إنجيل شفاء الأجساد والأرواح والنفوس، ما زلت ترسل خلفاءهم من بعدهم. ترسلهم أساقفة وكهنة ورهبانًا وراهبات ومؤمنين لبناء ملكوت الله في داخلهم وفي المجتمع البشريّ. بارك، يا ربّ، رسالة الكنيسة كي تعطي ثمارها. أفضْ على شبيبتنا أنوار روحك القدّوس، لكي يحسنوا تمييز دعوتهم ومواهبهم في الحياة. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك الراعي - التنشئة المسيحية
موقع بكركي