ترأس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي قدَّاسًا احتفاليًا بدعوة من رابطة سيِّدة إيليج، الحادية عشرة من قبل ظهر اليوم، في كنسية سيّدة إيليج سلطانة الشّهداء، ميفوق - القطارة، وذلك لمناسبة سنة الشّهادة والشّهداء، وفي ذكرى 630 سنة على استشهاد البطريرك جبرائيل حجولا وتكريمًا لشهداء المقاومة اللبنانيّة، في حضور الرئيس ميشال سليمان، النائب نديم الجميل، الوزير السّابق أنطوان كرم، النائب السّابق فارس سعيد ورؤساء بلديّات ومخاتير وأهالي الشّهداء وحشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة بعنوان: "حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير" (يو12: 24)، قال فيها: "الرَّبُّ يسوع المسيح هو "حبّة الحنطة" بامتياز. مات على أرض الجلجلة فوق الصّليب لفداء العالم، فأثمر موته ولادة البشريّة الجديدة المتمثلة بالكنيسة، جسدِه السرّي. فأصبح كلّ أعضاء جسده، بحكم المعموديّة والميرون، مطبوعين بطابع الموت والقيامة، وبطابع التضحية بالذات وإعطاء الثمار الروحيّة والاجتماعيّة والوطنيّة.
من بين هؤلاء الذين نهجوا نهج حبّة الحنطة البطريرك الشّهيد جبرايل حجولا الذي نُحيي ذكرى استشهاده الستماية والخمسين؛ وشهداء الإيمان والوطن. كلّهم أثمروا الثمار الوفيرة في حياة كنيستنا ووطننا. من هذه الثمار حماية وجودنا وتاريخنا وكرامتنا، والنموّ والازدهار على كلِّ صعيد. لكن استشهادهم بإراقة دمائهم على مذبح الإيمان والكنيسة والوطن، والوفاء لذكراهم، كما نحن فاعلون الآن، يستدعيان منّا أن نعيش حياة روحيّة وأخلاقيّة وسياسيّة وثقافيّة تليق بالثمن الغالي الذي دفعوه عنّا ومن أجلنا، وهو ثمن دمهم الذي لا يعوّض.
يُسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، إحياءً وتكريمًا لشهدائنا، شهداء الإيمان والوطن. فأحيِي سيادة أخوينا المطران ميشال عون راعي الأبرشيّة، والمطران منير خيرالله رئيس اللّجنة البطريركيّة لسنة الشّهادة والشّهداء، والأب ميشال إليان رئيس دير سيّدة ميفوق والآباء المعاونين في خدمة الرعيّة وهذا المقر البطريركي التاريخي الذي احتضن ثمانية عشر بطريركًا عطروه بصلواتهم وببخور فضائلهم، ومن بينهم البطريرك الشّهيد. ونعرب عن تقديرنا وشكرنا للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة على حضورها الروحيّ والرَّاعوي في هذه المنطقة العزيزة، عبر ديري سيِّدة ميفوق ومار شليطا القطارة، حافظة ذاكرة تاريخيّة مهمّة من تاريخ كنيستنا وبطاركتنا.
ونوجّه تحيّة خاصَّة إلى رابطة سيِّدة إيليج، رئيسِها السيِّد كلوفيس الشويفاتيّ وأعضائها، التي تدعو إلى هذا الاحتفال وتنظمّه في مناسبة "سنة الشّهادة والشّهداء". كما وإنّنا نحيي الآباء والأمهات من أهالي شهدائنا الذين قدموا ذواتهم على مذبح الوطن أثناء الحرب اللبنانيّة المشؤومة، ويرقدون في ظلّ سيِّدة إيليج، وغابة الأرز، رمز وطننا المفدى. إنّنا نرفع هذه الذبيحة الإلهيّة لراحة نفوس الشّهداء، راجين لهم إكليل المجد في السّماء، ولأهلهم العزاء الإلهيّ. كما سبقه استشهاد البطريرك دانيال الحدشيتي سنة 1283 على يد المماليك أنفسهم.
البطريرك الشّهيد جبرايل من حجولا في بلاد جبيل، انتخب بطريركًا سنة 1357 وسقط شهيدًا على يد المماليك بعد عشر سنوات عام 1367، أي بعد 850 سنة من استشهاد الرّهبان تلاميذ القدّيس مارون الثلاثماية والخمسين عام 517، وبعد 1300 سنة من استشهاد القدّيسين الرّسولين بطرس وبولس في روما عام 67.
بحسب رواية البطريرك المكرّم اسطفان الدويهي، في كتابه "تاريخ الأزمنة" وهو أوّل كتاب عن تاريخ كنيستنا ومجريات الأحداث الزمنيّة التي رافقت مسيرتها، اشتدّ اضطهاد المماليك للموارنة وبخاصّة الأساقفة والكهنة والشّعب. فكان القتل والتدمير والتشريد لأسباب سياسيّة مرتبطة بالحملات الصليبيّة والفرنجه.
وبما أنّه "إذا ضُرب الرّاعي تبدّدت الرَّعيّة كلّها"، كان البحث عن البطريرك "الأب والرأس". فوشي إلى والي طرابلس أنّ البطريرك موجود في حجولا قريته. فقبض على أربعين رجلاً من أهل حجولا وأمر بإحضاره، فحضر البطريرك لينقذ شعبه. لكن الوالي أمر بحرقه حيًّا في أوائل نيسان 1367 خارج المدينة عند طيلان (راجع تاريخ الأزمنة، طبعة توتل، ص 185-186). أمّا أهالي طرابلس فجعلوا من قبره مزارًا على اسم الشيخ مسعود، فكان قبره يهب الشّفاء لكلّ ملتمس، بحسب التقليد المتناقل.
أمّا اليوم فلا يوجد أثر لهذا المزار بسبب بناء واحد من أضخم جوامع طرابلس عليه وأعرقها وأجملها. ومع ذلك يبقى البطريرك الشّهيد حيًّا في مجد السّماء، في موكب الشّهداء الأبرار، ويشفع بكنيستنا ووطننا وهذا المشرق المعذب بويلات الحروب والنزاعات والقتل والهدم والتشريد. فكم هو بحاجة إلى إنجيل يسوع المسيح، إنجيل المحبّة والسّلام والأخوّة بين جميع الناس، إنجيل قدسية الحياة البشريّة وكرامتها.
شهداؤنا الذين نحيي ذكراهم في هذا المكان المقدّس مع الكثيرين من أمثالهم ورفاقهم على أرض لبنان كافة، وقدموا دماءهم ذودًا عن لبنان في الحرب اللبنانيّة الأخيرة، هم أيضًا حبّات حنطة أثمرت خلاصًا لوطننا وشعبنا ولنا. فلا يسعنا إلّا إلانحناءة أمام ذكراهم جميعًا، مع الإقرار "بأنّهم ماتوا لنحيا". وفي هذا فخرهم ومجدهم وعزاء أهلهم وعائلاتهم. ألم يسمَّ الربّ يسوع موته ساعة مجده، إذ قال، عندما اقترب موعد تسليم ذاته طوعا لفداء العالم: "أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان" (يو12: 23). ثم التمس القوّة للثبات في مواجهة ذبيحة الذات هذه: "يا أبتِ مجِّد اسمك" (يو12: 28). فإذا بموت يسوع، فداء عن الجنس البشريّ بأسره، تمجيد له بانتصاره على الخطيئة والموت، وتمجيد للآب بإتمام مشيئته الخلاصيّة الشاملة جميع النّاس. هنا يكمن سرّ بطولة شهدائنا منذ فجر المسيحيّة حتّى يومنا.
كلّنا يرى ثمار هؤلاء الشّهداء الكنسيِّين والمدنيِّين، المشبهة بثمار حبّة الحنطة. إنّنا نرى نمو الكنيسة وازدهارها بأبنائها وبناتها ومؤسَّساتها المتنوعة، وبانتشارها تحت كلّ سماء، وبحيويتها وثقافتها وتأثيرها. ونرى تكوين لبنان الذي أعلن دولة مستقلّة في أوّل أيلول 1920 مع البطريرك الكبير خادم الله الياس الحويك، ثمّ أنجر استقلاله سنة 1943 مع البطريرك أنطون عريضه، وذلك بعد مسيرة تاريخيّة طويلة قادها بطاركتنا بصبر وتقشّف وشجاعة وحكمة، وكشهداء أحياء ارتضوا، من أجل حماية الأغليين: الإيمان المسيحي والاستقلالية، الإقصاء، والاضطهاد والاعتداء والتنكيل.
وتهجّروا متنقّلين، وعروشهم على ظهورهم، من كفرحي، إلى يانوح، إلى إيليج، إلى قنوبين، إلى لحفد، إلى هابيل، إلى كفيفان، إلى الكفر، إلى بنهران، إلى برحليون، إلى عمشيت، إلى دير سيّدة مشموشه، إلى دير مار سركيس وباخوس ريفون، إلى مجدل المعوش، إلى دير مار شليطا-غوسطا، فإلى الديمان وبكركي. إنّها مسيرة متواصلة لن تتوقف، تتبدل فيها نقط فصولها وألوانها. وتبقى مسيرة ضامنة لشعبنا ووطننا. ونرى، بنتيجة تضحيات الشّهداء، كيف اجتاز لبنان مخاطر وقطوعات في محطّات مختلفة، يضيق الوقت لتعدادها.
فالبرّغم ممّا أحرز لبنان من ازدهار ونمو من جهّة، ومن حالات التراجع السياسيّ والاقتصاديّ والمعيشي، من جهّة أخرى، ومن مظاهر الفقر والحرمان والحاجة عند أكثر من ثلث اللبنانيِّين من جهّة ثالثة، فإنا مدعوّون لنجدّد العزم والعزيمة بقوّة دماء شهدائنا، فنضحّي بما يلزم كي نحافظ على وديعة وطننا لبنان. فلا يكون أرضًا للهجرة أو للبيع أو للإهمال أو أرضًا سائبة للطامعين. فعلى أرضه المرويّة بدماء شهدائنا، وعرق جبين أجدادنا ودموعهم، كتبنا تاريخنا ورسمنا هويّتنا وحدّدنا رسالتنا.
وإنّني من سيِّدة إيليج وما تعني أوجه معكم النداء إلى الجماعة السياسيّة عندنا لتصحِّح ممارستها السياسيّة. فدماء شهدائنا تستصرخ ضمائرهم ليكونوا على مستوى التحديات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية. ندعوهم للمحافظة على لبنان بخصوصياته وميزاته بين بلدان المنطقة، وفقا للميثاق الوطني والدستور، بغنى تنوعه الديني والثقافي ضمن إطار الوحدة الوطنية، وبنظامه الديموقراطي، وبميزة المشاركة المتساوية والمتوازنة في الحكم والإدارة بين المسيحيين والمسلمين، وبأهمية حياده وتحييده عن الصراعات والتدخلات الإقليمية والدولية، ليكون فاعل استقرار وسلام والمدافع عن قضايا المنطقة، ومكانًا للقاء الأديان والثقافات والحضارات.
ندعوهم لبذل الجهود في إطلاق النهوض الاقتصادي بكلِ مكوِناته، وإيجاد فرص عمل لشبابنا وقوانا الحية، ودعم خزينة الدولة، والتخفيف من عبء الدين العام، وقيام الدولة بإيفاء مستحقاتها المالية للمؤسسات الاستشفائية والتربوية والاجتماعية.
وندعوهم لتوحيد القوى والسبل من أجل تحقيق عودة النازحين واللاجئين إلى أوطانهم وممتلكاتهم، استرجاعا لحقوقهم بحكم المواطنة، والتزامًا بإعادة بناء بيوتهم، وحفاظًا على ثقافاتهم وحضاراتهم. بعودتهم يسلم لبنان من الأخطار الجسيمة التي تتهدد أمنه واقتصاده واستقراره السياسي وثقافته، والتي تتسبب بارتفاع عدد العاطلين عن العمل، وبفتح باب الهجرة المميت.
لبنان يحتاج إلى بزوغ فجر جديد من القوى السياسية المسؤولة والواعية والملتزمة. هذا ما نرجوه عبر الانتخابات النيابية الفرعية والعامة، وفقا للدستور، قبل حلول شهر أيار المقبل، آملين أن تعطي هذه الانتخابات بلادنا وجوها جديدة تكون على مستوى تطلعات الشعب اللبناني، والتحديات الراهنة، وحاجات الدولة والوطن.
نلتمس ذلك من جودة الله وعنايته، بشفاعة أمنا مريم العذراء سيدة إيليج، وبحق دماء البطريرك الشهيد جبرايل حجولا، وسائر شهدائنا، شهداء الإيمان والوطن.
وليرتفع من قلوبنا وشفاهنا نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".
المركز الكاثوليكي للإعلام.