الدخول في سرّ الصليب المجيد

متفرقات

الدخول في سرّ الصليب المجيد

 

 

الدخول في سرّ الصليب المجيد

 

 

 

 

 إذا غُصْتَ في سرّ شخص المسيح، ستفهم أنّه جاء ليحرّرك بأن يُعيدَ خَلْقَكَ على صورة الله. ولكنّه لا يحقّق هذه الخلقة الجديدة بصورة علانية، بل مثل العبد المتألّم، كما ورد في أشعيا (فصل ٥٣). إن يسوع يخلّصك بالمحبّة، أي بالاتّضاع والطاعة للآب. أجل، إن يسوع يلدك للحياة البنويّة، في سرّ الصليب المجيد. فلا تُبعد سريعًا هذا العثار، وارضَ بأن يحيّرك جنون الصليب.

 

 

 إعلم أنّك لن تعرف يسوع حقًا إلّا بدخولك في سرّ صليبه. فحذارِ من معرفة لا تكون إلّا نظريّة، من دون أن تكون حيّة ووجوديّة. لن تعرف يسوع إلّا حين تلتزم بالسير وراءه. وإذا وهبت له ذاتك بكلّ قوى كيانك وبكلّ محبّة قلبك، فهذا يعني أنّك ترضى بأن تقاد إلى حيث لا ترغب، أي إلى الآلام. وإنّما يعرف يسوع أباه حقّ المعرفة عندما يبذل حياته: كما أنّ الآب يعرفني ، وأنا أعرف الآب، وأبذل حياتي عن خراف (يوحنّا ١٠ / ١٥). لأن معرفة الله الحقيقية تبلغ ذروتها بالعزم على التضحية، لأنّ الله في جوهره محبّة وعطاء.

 

 

 وحينما يدعوك المسيح إلى اتّباعه وإلى حمل صليبه (لوقا ٩ / ٢٣ ـ ٢٦)، فإنّه يعرض عليك أن تتخلّى عن حُلم حياتك، لكي تعطيه ذاتك حقـًا. فأنت لا تعطي حياتك لقضيّة أو لنظام أو لنظريّة، بل لشخص؛ "لأجلي"، يقول المسيح. وإزاء هذه الدّعوة، بوسعك أن تتهرّب، كما فعل الشاب الغنيّ، وإذ ذاك سينظر المسيح إليك بحزن وأنت ماضٍ. ويمكنك أن تقول مثل ابنيّ زبدى: نعم نستطيع أن نشرب الكأس (متى ٢٠ / ٢٢). وهذه "نعم" هي حسب نهج عمادك وتقدمتك، وهي تتضمّن رغبتك الصادقة في أن تتبع يسوع حيثما يمضي وأن تقاسمه موته المجيد.

 

 

 ولا يكفي أن ترضى باتّباع يسوع بالقول فقط. بل عليك أن تعيش سرّ الصّليب في كلّ وجودك الإنسانيّ. وذلك بأن يصبح تشبّهك بالربّ يسوع أكثر صدقـًا يومًا بعد يوم. وهنا تُطرح مسألة بذل ذاتك بذلًا كاملًا في سبيل خدمة الملكوت. فإنّ سرّ الصّليب الذي يلقي الهلع في قلب الإنسان المعاصر الحريص على التفتّح، لا يُفهَمُ إلّا في المحبّة التي بدونها يصبح الصّليب قائمًا على اللامعقول، وعثرة سخيفة. ولبذل ذاتك، يجب أن تنكرها. ولإنكارها يجب أن تكون موجودًا. فلا يمكنك تأسيس النكران على فناء طبيعتك البشريّة. إنّ ذاك الذي يهب الأشياء والأشخاص الذين يحبّهم ويتخلّى عنهم يمكنه وحده أن يتسلّمهم في علاقة مجّانية من المحبّة اللامتناهية.

 

 

 وهكذا فإنّ بذل ذاتك يتبع حركة مزدوجة: أوّلًا: أن ترضى، قبل كلّ شيء، بحقيقتك الإنسانية. فقبل أن تفكّر في تقدمة ذاتك للمسيح، يجب عليك أن توجد. والرّب يطلب منك أن تنمّيَ إلى أقصى حدّ جميع المواهب التي وضعها فيك: الجسد، الرّوح، القلب، الإرادة، الحرّية... فعليك أن تتلقـّى بوعي كامِلَ جميع القوى الحيوية الناشئة في صميم كيانك. وإنّك لتقوم بعمل مشين إذا أهملتها بحجّة التخلّي. وما أكثر الصعوبات التي تنتج عن كونك ترفض أن تقبل ذاتك كما أنت، مع جميع الطاقات الكامنة فيك.

 

 

 إلّا أنّ محبّة المسيح الحقيقيّة تفترض أيضًا ألّا تنغلق على مواهبه وتحتفظ بها بأنانية أو تستعملها لمسرّتك الشخصيّة فقط. هنا يكمن سرّ الخطيئة: فعوضًا عن أن تجعل هذه المواهب وسائل للعلاقة مع الآب والآخرين، ها أنت تستخدمها لغايتك الشخصيّة الخاصّة. فعليك، إذًا، أن تستخدم النظام الطبيعي كلّه مع كلّ أمانيك، وأن تتجاوزها جميعها لتسلّم ذاتك إلى المسيح وترضى بأن تغزوك نعمة التأليه. تخلَّ عن أفكارك حول هذا الموضوع وتقبّل من شخص المسيح ما لا تتوقّعه. ففي ذلك اهتداء حقيقيّ يقتضي منك تغييرًا جذريًا.

 

 

 أمّا أمر تطهيرك في قواك الحيّة فمنوط بالمسيح. فحينما تُفسح له في المجال، فهو يطهّر فيك الميل الذي يحملك على التمسّك بممتلكاتك الشرعيّة. فعليك، إذًا، أن تحمل صليبك اليومي أي هذه المجموعة من التطهيرات التي تفرضها عليك ظروف الحياة.

 

ولكن انتبه لئلّا تصنع الصّليب في مصنعك الشخصيّ، بل دع المسيح يحملّك صليبه. وهكذا حينما ترضى بأن تُهلك حياتك، حينئذ تخلّصها. فإنّك لا تملك إلّا ما ضحّيت به. أنت تعلن في ذبيحة القدّاس اليوميّة عن رغبتك في الاشتراك في سرّ موت المسيح وقيامته. وحينما تأكل جسده وتشرب كأس دمه، يعلّمك المسيح نفسه أن تعطي ذاتك للآب وللإخوة.

                                             

 

 

 

                     صلِّ إلى أبيك في الخفية

 

 

                                                               جان لافرانس