بمناسبة انعقاد النسخة الثامنة لمهرجان العقيدة الاجتماعيّة للكنيسة في فيرونا من الثاني والعشرين وحتى الخامس والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر الجاري وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة فيديو للمشاركين قال فيها
لقد اختار المنظِّمون كموضوع لهذا المهرجان "أحدى عشرة مخاطرة في سبيل الحرية" للدعوة إلى التأمّل حول ما يعضد على الدوام مسيرة الرجال والنساء المجتمعات والحضارات. لكن رغبة الحرية – التي هي عطيّة من الله لخليقته – قد اتخذت أشكالاً منحرفة مولِّدة حروبًا وظلمًا وانتهاكات للحقوق البشريّة.
كمسيحيين أمينين للإنجيل ومدركين لمسؤوليتنا تجاه إخوتنا نحن مدعوون لنكون متنبِّهين وساهرين لكي لا تفقد المخاطرة في سبيل الحرية معناها الأسمى والمُلزم. إنَّ المخاطرة في الواقع تعني الالتزام وهذه هي دعوتنا الأولى. علينا أن نلتزم جميعًا لنزيل ما يحرم الرجال والنساء من كنز الحريّة، ولنجد مجدّدًا، في الوقت عينه، طعم تلك الحريّة التي تعرف كيف تحرس البيت المشترك الذي أعطانا الله إياه. كثيرة هي الأوضاع التي لا يمكن فيها لرجال ونساء اليوم أيضًا أن يستثمروا حريّتهم ولا أن يخاطروا فيها؛ ويمكنني ان أسلّط الضوء على ثلاثة منها: الفقر وتحكُّم التكنولوجيا وتحويل الإنسان إلى مجرّد مستهلك.
أولا ًالفقر الذي يسببه الظلم الذي لا زال يُرتكب في العالم بأسره حتى في مدننا: "لم يعد الأمر يقتصر ببساطة على ظاهرة الاستغلال والقمع بل على شيء جديد: مع الإقصاء يُصاب الانتماء إلى المجتمع الذي يعاش فيه في جذوره نفسها حيث إنّه في الإقصاء لا يتموضع المرء فقط في الأحياء القذرة أو في الضواحي وبدون سلطة وإنما في الخارج. إنَّ المنفيين ليسوا مُستغلّين بل هم نفايات وبقايا". إنها ثقافة الإقصاء! إذا تحول رجل ما أو امرأة ما إلى مجرّد "بقايا" فهما لا يختبران فقط ثمار حريّة الآخرين السيّئة بل يُسلبون إمكانية المخاطرة بحريّتهم من أجل أنفسهم وعائلاتهم ومن أجل حياة صالحة وعادلة وكريمة.
هناك بعدها وضع آخر يؤثر سلبيا على خبرة الحرية وهو التطوّر التكنولوجي عندما لا يترافق بنموٍّ ملائم للمسؤولية والقيم والضمير. يُفقد هكذا معنى الحدود مع تبعاته لعدم رؤية التحديات التاريخية التي تواجهنا. يمكن لمُطلقيّة التكنولوجيا أن تنقلب ضدّ الإنسان كما ذكّر البابا بولس السادس في خطابه لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين على تأسيس الفاو: "إنَّ لم يترافق التقدّم العلمي الأروع والاستثمار التكنولوجي الباهر والنمو الاقتصادي الضخم بتقدّم حقيقي إجتماعي وأخلاقي فستتحوّل جميعها في النهاية ضدّ الإنسان".
أما الوضع السلبي الثالث، فيمثّله تحويل الإنسان إلى مجرّد مستهلك. هنا تصبح الحريّة مجرّد وهم. في الواقع إنَّ هذا النموذج يجعل الجميع يعتقدون بأنهم أحرارًا، طالما أنهم يحتفظون بحرية مزعومة في الاستهلاك، في حين أن الذين يملكون الحرية هم الذين ينتمون إلى تلك الأقلية التي تمسك بزمام السلطة الاقتصادية والمالية. هذه ليست حريّة بل هي استعباد تُطبع فيه الخبرة اليوميّة بالاستسلام وغياب الثقة والخوف والإنغلاق.
بالرغم من هذه الانحرافات لا تنقص فينا أبدًا الرغبة في المخاطرة بحريتنا. حتى في الذين عاشوا ويعيشون أوضاع استعباد واستغلال. سيتسنّى لكم خلال المهرجان أن تصغوا إلى شهادة حريّة تمّت استعادتها: على سبيل المثال من الدعارة والاستغلال وغيرها. إنها قصص تجعلنا نقول: نعم، إنّ المخاطرة في سبيل الحرية هي أمر ممكن! حتى إن كان لدى البعض منا خوف من المضي بعكس التيار؛ كثيرون يعيشون في يومياتهم أساليب حياة متزنة وتضامنية ومنفتحة. هؤلاء هم الجواب الحقيقي على أشكال العبودية المختلفة لأنّهم يتصرفون كأشخاص أحرار، ويشعلون رغبات مُنعشة ويفتحون آفاقًا ويجعلون الآخرين يرغبون في الخير. إنَّ الحريّة المعاشة لا تقتصر على إدارة ما يحصل لأنها تحتوي في داخلها على ما يحملها أبعد. الحرية لا تقتل الأحلام بل تبني في الحياة ما يرغب فيه الكثيرون ولا يملكون الشجاعة للحصول عليه. أن نكون أحرارًا هو بالتأكيد تحدٍ دائم: يُذهل ويخلُب ويعطي شجاعة ويولد الأحلام ويخلق الرجاء ويستثمر في الخير ويؤمن بالمستقبل؛ وبالتالي هو يحتوي على قوّة أقوى من كل استعباد. إنَّ العالم يحتاج لأشخاص أحرار!
إنَّ الكائن البشري ينمو وينضج ويتقدّس على قدر دخوله في علاقة، عندما يخرج من ذاته ليعيش في شركة مع الله، ومع الآخرين ومع جميع الخلائق. هكذا ينال في حياته تلك الديناميكية الثالوثية التي طبعها الله فيه منذ أن خلقه. إنّ كلّ شيء متّصل ببعضه البعض، وهذا يدعونا إلى أن نُنْضجَ روحانيّة تضامن شامل، ينبعث من سر الثالوث. لذلك تكتشف حريّة الإنسان ذاتها في العمق عندما تفهم أنّ حريّة الآب المحبّة، التي تظهر في الابن في وجه الرحمة، قد ولدتها وتعضدها؛ وتحت نظرها الشفوق يمكن لكلِّ إنسان أن يستعيد المسيرة ليخاطر في سبيل الحريّة.
أيها الأعزاء، أتمنّى أن تكونوا أشخاصًا أحرارًا وألا تخافوا من أن تبذلوا ذواتكم وتلتزموا من أجل تحقيق الخير ومساعدة المعوزين. أؤكِّد لك قربي وصلاتي. وأمنحكم بركتي وأسألكم من فضلكم ألا تنسوا أن تصلّوا من أجلي.
إذاعة الفاتيكان