نعلم أنّ الحياة الروحيّة بحسب الكتاب المقدّس لا تقوم على ممارسات دينيّة كالذبائح والتقادم، بل حتّى ولا على الأصوام والصّلوات الكثيرة، وإنّما على تغيّر القلب. فالعبادة بالرّوح والحقّ التي يذكرها يسوع في حواره مع السّامريّة (يو4: 23) تجد صداها في رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما حين يقول: "إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة. ولا تَتشَبَّهُوا بِهذِه الدُّنيا، بل تَحَوَّلوا بِتَجَدُّدِ عُقولِكم لِتَتَبيَّنوا ما هي مَشيئَةُ الله، أَي ما هو صالِحٌ وما هو مَرْضِيٌّ وما هو كامِل". (روم12: 1-2).
فالقلب القادر على الحبّ أعظم من الممارسات الدينيّة الّتي إن كانت مفيدة فلجعل تذكار الله حاضرًا دائمًا في فكر الإنسان لكي يتجدّد قلبه. لأنّ ذكر الله وحده يحوّل القلب. الأصوام والصّلوات والتقادم هي وسائل لا غايات في حدّ ذاتها، وهي أحيانًا دوريّة روتينيّة لتطبع ذاكرة الإنسان بذكر الله، وأحيانًا تكون استثنائيّة مثل دواء يناسب البعض ولا يناسب البعض الآخر وتتطلّب تمييزًا في استخدامها. وأمّا الأساس فانفتاح القلب على مشيئة الله.
ولكن حين يقول يسوع لسائله "لستَ بعيدًا عن ملكوت السَّماوات" (مر12/ 34) لا يكتفي بتثبيت إجابته وإعلان صوابها، بل يدعوه إلى الدّخول في ملكوت السّماوات الذي ليس بعيدًا عنه. بعيدٌ من لا يعلم أنّ حبّ الله فوق كلّ شيء وحبّ القريب كحبّ النفس، أعظم من كلّ التقدمات. وأمّا من فهم قصد الله، من بلغ معرفة الله بالكفاية، فماذا ينقصه؟ لمَ هو قريب فحسب لا متّحد بملكوت الله؟ ما الّذي ينقص؟
في الواقع لم يأتِ يسوع بتعليم جديد غريب عن تعليم الشّريعة والأنبياء في العهد القديم، وإنّما أظهر هذا التعليم بشكل يفوق تصوّر البشر.
سألت تريزيا الطفل يسوع مثلاً: أيّ جديد أتى به يسوع فوصيّة الحبّ موجودة منذ البدء وفي العهد القديم أيضًا كان المؤمنون الصّادقون يعلمون أنّ عبادة الله ليست بالممارسات بل بالإيمان والرّحمة. وتجيب بذكائها المعتاد: وصيّة يسوع هي أن نحبّ القريب "كما هو أحبّنا"، وهذا ما لا يعرفه العهد القديم.
ما أتى به يسوع أنّه أظهر لنا إلى أيّ مدى يبلغ الحبّ. لا يكفي أن نعرف التّعليم ونطبّقه لكي ندخل في ملكوت الله، بل أن نندهش من اختبار الحبّ الذي أتى به يسوع إلينا حتّى أنّنا نحيا منذ الآن لا من أجل أنفسنا بل بالرّغبة في أن يكون فينا الحبّ عينه والرّجاء أنّنا نحن أيضًا موعودون بهذه القدرة على الحبّ.
فالمعرفة، معرفة قصد الله وتفضيله حبّ القريب على الذبائح والتقادم، مثلها مثل الممارسات الدينيّة حين تكون في مكانها، هي تحضير، اقتراب من ملكوت الله. أمّا الدّخول فلمن يجرؤ على التصديق العميق، من يجرؤ على المراهنة بكلّ شيء في سبيل الحبّ، إيمانًا بوعود الله.
ومن يجرؤ سوى من رأى ولمس واختبر حبّ الله الذي في المسيح يسوع؟ ليس قانون إيماننا مجموعة معتقدات تميّزنا عن غيرنا بل هو قصّة حبّ نرويها لنفهم أنفسنا ولنُفهم أولادنا وجيراننا سبب "الرّجاء الذي فينا" (1بط3: 15).
لأنّ الحبّ يقوم على أنّنا لم نحبّ الله أوّلاً بل هو أحبّنا أوّلاً، وعلى قدر فهمنا حبّ الله لنا نقدر على الحبّ. وعلى مدى الأجيال ردّدت الكنيسة قصّة يسوع، ومن أصغى بقلبه صار له قلب يحبّ، وظهر القدّيسون الكبار، وصارت قصصهم أيضًا قصّة يسوع تلهب قلوبنا وتوبّخنا على قلّة همّتنا وتقودنا إلى حبّ أعظم فأعظم.
فالتعليم المسيحيّ ليس نظريّات وإنّما علاج لأمراض القلب. هذا التّعليم يجعل البعيد قريبًا والقريب متّحدًا لكي يكون الإنسان كما خلقه الله "على صورته ومثاله". فلنقترب إذًا من هذا التّعليم، ولنقبل عليه، ولنفهمه من خلال الدراسة والقراءة والتفكير والتأمّل، ولنسعَ أن تُروى القصّة من جديد فينا ومن خلالنا (هذا ما يسمّيه قداسة البابا الأنجلة الجديدة)، ولكن حين نجد الحبّ فلنعلم أنّه أسمى من التّعليم، وأعلى من التذوّق الرُّوحيّ، وأجمل من كلّ الممارسات الدينيّة. الحبّ هو كلّ شيء.
الأب داني يونس اليسوعيّ