من أصعب الأمور التي يمكننا التعبير عنها هو الحبّ، ولذا نستعمل الصور والرّموز سعيًا لوصف المشاعر التي تشدّنا إلى الآخرين وتربطنا بهم. فالحبّ هو أروع ما نحمله في قلبنا، وأسمى ما نريد أن نهبه لأحبّائنا، وهو أعمق وأكبر بكثير ممّا نقوله لهم ونفعله من أجلهم بالفعل. ويرتبط الحبّ باحترام حرّيّة المحبوب، فالمحبّ لا يريد أبدًا أن يفرض نفسه على المحبوب، ولا أن يأسره بمشاعره، بل يبغي شيئًا واحدًا، ألا وهو حياة المحبوب وفرحه ونموّه.
ولذلك فالمحبّ يهب حبّه، وينتظر من المحبوب أن يفتح باب قلبه بحرّيّة وأن يستقبله في حياته. الحبّ الحقيقيّ شعور جيّاش يفيض من القلب، ولكنّه يستعمل الصّور ليعبّر عن نفسه حتى لا يصدم المحبوب بأيّ وجه من الوجوه. يتحفظ ويتأنّى ويترفّق حتى يمدّ المحبوب يده للمحبّ، فيهبان بعضهما لبعض في الفرح والسّلام والنّور. الحبّ هو سرّ وجودنا الإنسانيّ، وهو اسم الحياة الحقيقيّ، تلك التي تتدفّق في عروقنا وتجعلنا نتحرّك ونعمل.
ويختار يسوع صورة الرّاعي الصّالح ليقول لنا إنّه يحبّنا، وإنّ الحبّ يتطلّب منه أن يهب ذاته، أن يعطينا كلّ ما عنده، حياته وروحه. يريد يسوع عبر صورة الرّاعي أن يعلن لنا سرّ قلبه، فهو يحبّنا حبّ الأب والأم معًا، حبّ بلا حدود، لا يُدرك ولا يُوصف. فقد صار قلبه أتون نار من الحبّ الذي لا يريد سوى أن نحيا بفيض، بحقّ وبصدق.
تعبّر صورة الرّاعي الصّالح عن هذا كلّه، ولكن بتحفظ ورقّة هما سمات الحبّ الحقيقيّ. وكأنّ الحبّ ندركه، طالما نحن في الجسد، من خلف ستار، وعبر صور، ولكن ستأتي ساعة تسقط فيها كلّ الستائر والصور، فسنراه وجهًا لوجه، ونعرفه كما يعرفنا (1قو 13: 12).
وحتّى تأتي هذه السّاعة، ماذا يُعلن لنا يسوع عبر صورة الرّاعي الصّالح؟ يعني الحبّ أن يعرف المحبّ المحبوب، ويسوع يقول لنا إنّه يعرفنا بالاسم، في عمق وجودنا، في تفاصيل تاريخنا، في تشابك مشاعرنا، في ضعف إيماننا وإرادتنا، في تجاربنا وخطيئتنا.
يعني الحبّ أنّ المحبّ يحتضن المحبوب بكلّ ما هو عليه وبكلّ ما يحمله، ويسوع لا يعرفنا من الخارج بل يحبّ كلّ ما فينا، يدخل إلى أعماقنا ليسكن فيها، وينزع عنّا كلّ خوف وخجل وحزن نحمله تجاه شخصنا أو تاريخنا.
يعرفنا يسوع بمعنى أنّه ينظر بفرح وشغف إلينا كما ينظر الأب والأمّ إلى إبنهما أو إبنتهما، لا يهمّه العيوب ولا النواقص لأنّه يرى ذاته فينا، ينظر إلى الجوهرة الثمينة التي وضعها في قلبنا، وهي صورته الرّائعة التي طبعنا عليها. بالحقّ يسوع هو الرّاعي الصّالح الذي يعلّمنا كيف نحبّ أنفسنا ونتصالح مع ذواتنا، فنصبح رعاة صالحين لحياتنا.
هو يعرفنا كما يعرفه الآب، يحبّنا ويتوق إلينا بالحبّ ذاته الذي يوحّده بالآب. في صورة الرّاعي الصّالح الذي يحتضن خروفه أو يحمله على كتفه نجد لمحة بسيطة عن تلك المشاعر الفيّاضة التي يحملها يسوع لنا. فنحن فرح قلبه ورغبته العميقة، سبب سعادته وهنائه، ويريد أن يعطينا كلّ شيء، وفي سبيلنا يبذل نفسه وحياته. لا يتركنا لحظة بمفردنا، فنحن أمام عينيه وبين يديه في كلّ وقت.
وبالأخصّ وقت التجارب والصّعوبات، يمشي أمامنا ومعنا ليحمينا من الذئاب التي تريد أن تقتنص من حياتنا. يعرض نفسه للموت دفاعًا عن حياتنا. فقد ربط مصيره بمصيرنا، حياته بحياتنا، يحمل ما لنا من ضعف وخوف وخطيئة، ويهبنا ما له من بنوّة ونعمة وفرح وسلام.
والحبّ لا يعرف الحدود، لا يغلق بابًا ولا يوصد طريقـًا، بل يشمل كلّ الأبناء والبنات، ولا يرتاح إلّا حين يجمع بين ذراعيه كلّ البشر. تمام الحبّ عندما "يملأ يسوع كلّ شيء في كلّ شيء" (أف 1: 22)، وتكون الإنسانيّة في كثرتها وتنوّعها جسدًا واحدًا في المسيح (رو 12: 5). ومن منّا عرف حبّ الرّاعي الصّالح صار معه ومثله راعيًا للآخرين، رفوقـًا بالضّعفاء، شفوقـًا على الخطأة، مستقبلاً للمختلفين عنه، وديعًا للرّوح القدس، حازمًا بلا أدنى تواطؤ مع الذئاب الشرِّيرة.
وإذا كان حبّ الآب والابن هو نبع حياتنا ومصدرها في الرّوح القدس الذي يجمعهما ويوحّدهما، فلا شيء يمكن أن يفصلنا عن الحبّ هذا الذي ظهر لنا في يسوع المسيح الرّاعي الصّالح، "لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قوى الأرض ولا قوى السّماء، ولا شيء في الخليقة كلّها يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربّنا" (رو 8: 38-39).
الأب نادر ميشيل اليسوعي.