نصّ إنجيل (لوقا 16/ 1 -13) مربك ويصدم العديد من المسيحيِّين. كيف يمكن للمسيح أن يمدح وكيل خائن؟ كيف يمكن أن يطلب منّا أن نصنع أصدقاء لنا بالمال الحرام؟ ما هي هذه الفطنة التي يدعونا إليها؟
قبل الإجابة على هذه التساؤلات، سوف أنطلق من الواقع الإنسانيّ بشكلٍ عامّ ممّا يساعدنا على استيعاب وفهم أفضل لِكلمة يسوع.
ما ينقصنا جوهريّاً بشكل عامّ في الحياة هو في النهاية الثقة: الثقة بالآخرين وبالله، وخاصّة، وهذا هو الأساس، الثقة بذاتنا. ثقتنا بذاتنا ضعيفة لأسباب كثيرة، منها التربية ومنها المحيط والمجتمع ومنها يعود لكلّ شخص وكيفيّة تعامله وردود أفعاله أمام تصرّف المحيط معه.
هذا الأمر يجعلنا نبحث بشتى الوسائل لنصل إلى هذه الثقة. ومن يقول ثقة يقول حتماً حبّ. فكلّ ما نقوم به ونبحث عنه بطرق متعدِّدة ومختلفة، يهدف للوصول إلى هذه الثقة، وبالتالي للشّعور بأنّنا أُناس مهمّين لهم وجودهم الشخصيّ وتأثيرهم في محيطهم. فإذا كنّا نبحث عن المال، أو الملكية أو الشّهرة. فنحن نبحث، في النهاية، عن هذه الثقة وذاك الحبّ.
وبما أنّ ثقتنا بالله ضعيفة أيضاً، فنحن، بالرّغم من إيماننا به ومحبّتنا له، نسعى للبحث عن الحياة والأمان والطمأنينة خارجاً عنه، أي من خلال وسائل مزيّفة، لكنّنا نعيشها على أنّها حقيقيّة وأساسيّة: «تنفتح أعينكما وتصبحان كالآلهة تعرفان الخير والشرّ» تقول الحيّة للمرأة في الفصل 3 من سفر التكوين.
فسواء تعلّقنا بالمال أو بالشهرة أو بالمركز الاجتماعيّ. تبقى هذه الوسائل مزيّفة، بمعنى أنّها تعدنا بما لا تستطيع تحقيقه لنا، ألا وهي السعادة. بهذا المعنى يتحدّث نصّ إنجيل اليوم عن المال الحرام.
فكلّ هذه الوسائل ليست سيّئة بحدِّ ذاتها، لا بل هي ضروريّة لنا: من يستطيع العيش بدون المال، من هو الإنسان الذي لا يحتاج لدعم المحيط والمجتمع ليشعر بقيمته ووجوده ولو نسبياً؟ من يستطيع العيش بدون الحبّ؟
فليس المال ومجمل هذه الوسائل من يخدعنا، بل نحن من نخدع أنفسنا بخصوصها ونحمّلها أكثر ممّا تستطيع. وليس من العبث أن يبدأ الكتاب المقدّس بموضوع الثقة، حيث نرى عدم ثقة الإنسان بالله تدفعه للبحث عن تألهه بعيداً عن الله: «الثقة بنفسه».
وعبوديتنا لهذه الوسائل تجعلنا غرباء عن ذاتنا وحقيقتنا، ولهذا السبب تستطيع أن تستعبدنا وتسلب حريّتنا. فدعوة الله لنا لعدم عبوديّتنا لها هي في النهاية دعوة إلى الحريّة.
بهذا المعنى يقول يسوع بأنّه لا يمكننا أن نعبد الله والمال: فإمّا نختار أن نعيش حقيقتنا، حريّتنا أو نختار الزائف والمؤقت، عبوديّتنا. فالمسيح أكثر النّاس واقعية ولذلك هو ليس ضدّ المال، بل ضدّ الاستعمال السيّء للمال.
لذلك يدعونا إلى الفطنة، إلى الاستعمال الجيّد للمال كوسيلة للدخول في الملكوت. فإذا كان المال يمكنه أن يكون وسيلة تدخلنا الملكوت. كيف يمكن ليسوع أن يكون ضدّ المال؟
ألم يجب الفريسيّين عندما حاولوا إحراجه قائلاً لهم: «أدّوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله»؟ هذا هو معنى الآية: «أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور».
كيف يمكن للمال أن يكون وسيلة للدّخول في الملكوت؟
أولاً وقبل كلّ شيء عندما نحافظ من جهّة على المال كوسيلة وليس كهدف، ومن جهّة أخرى عندما نقبل بأنّنا لسنا المالكين، بل مجرّد وكلاء، مديري أعمال الله إن صحّ التعبير.
عندما سلّم الله العالم للإنسان ودعاه للتسلّط عليه، لم يدعه للتسلّط على أخيه الإنسان، ممّا يعني أن الله يبقى المالك الوحيد، ونحن وكلاء مهمّتنا تحقيق الخير العامّ، تحقيق عالم إنسانيّ مبني على العدالة والمساواة واحترام الشّخص الإنسانيّ.
فإذا عرف الوكيل الخائن كيف يستعمل خيرات هذا العالم ليخلق له أصدقاء ويهيّئ لمستقبله الأرضيّ، فكم بالأحرى على المسيحيّ أن يهيئ لمستقبله الأبديّ بمشاركته الفقراء من خلال الصدقة؛ لكي يستقبلوه في مدينة الله، فالفقراء هم في منزلهم لدى الله بحسب روحانيّة التطويبات.
«مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟». مقابل عدم العدالة التي تميّز الوكيل والمال، هناك ما يعارضها: الأمانة التي تنمو يوماً بعد يوم في استعمال الخيرات الروحيّة والأرضيّة. وهذا الأمر يتجسّد من خلال اعتبارنا:
الزمن الحاضر على أنّه زمن مؤقت، وبالتالي علينا الاستفادة منه لكي نؤمّن إن صحّ التعبير الحياة الأبديّة.
وأنّ مستقبلنا يرتبط بنوعيّة علاقاتنا مع الآخرين: علينا العبور من علاقات قانونيّة، علاقات قدرة، علاقات تجاريّة، إلى علاقات صداقة مؤسّسة على حلّ الدَيّن؛ والصداقة التي نتشارك بها بهذه الطريقة هي طريقة تعطي للجميع الخلاص الأبديّ.
وأخيراً، الخيرات هي ملك الله وحده. ونحن مؤَمّنين عليها، نحن وكلاء عليها لكي تخدم وتحقـِّق الأخوَّة بين البشر. وبالتالي عدم العدالة التي تتعارض مع عدل الله، تكمن في امتلاك المال. لأنّنا بامتلاكنا له نحيّده عن هدفه الصّحيح: خدمة الأخوّة من خلال مجانيّة تُظهر النعمة التي نعيشها.
الأب رامي الياس اليسوعي.