التواضع قاعدة الصلاة

متفرقات

التواضع قاعدة الصلاة

 

 

التواضع  قاعدة الصلاة

 

 

 

زمن العنصرة، وهو زمن الكنيسة، يضعنا إنجيل القدّيس لوقا (18: 9-14) أمام إحدى ميزاتها الأساسيّة وهي الصّلاة التي ترتكز على قاعدة التواضع. فالصَّلاة قبل أن تكون كلمات هي وقوف في حضرة الله القدّوس والكلّي الكمال، وأمامه تظهر حقارة كلّ إنسان وضعفه ومحدوديّته مهما علا شأنه الاجتماعيّ.

 

 

 

1. يشجب الربّ يسوع تصرّف الذين يعتدّون في أنفسهم أنّهم أبرار، وغيرهم خطأة. هذا النوع من التصرّف يعطّل قيمة صلاتهم. هذا إذا صلّوا. فيصبح مثل هذا التصرّف، المتمثّل بصلاة الفرّيسي في الهيكل، مُرادفًا لعدم الصّلاة. ذلك أنّ شرّ ما فيه هو الاعتداد بالنفس أمام الله. وهذا تكبّر على الله وليس فقط على الناس، كما هو ظاهر في صلاة الفريسيّ وفيه احتقار وإدانة للغير وإساءة ( لو8: 1-12).

 

2. ويثني يسوع على صلاة العشّار، لأنّه يقرّ في حضرة الله القدّوس بأنّه خاطئ، ولا يستحقّ الدنو من قدس أقداسه، وراح يلتمس رحمة الله وغفرانه (الآية 13). فكان حكم الربّ القاطع: "إنّ هذا نزل إلى بيته أبرّ من ذاك". وأرفق قوله بقاعدة الصّلاة: "لأنّ كلّ مَن يرفع نفسه يتّضع. ومَن يضع نفسه يرتفع" (الآية 14).

 

3. كلّ إنسان أمام الله خاطئ. هذه ميزة القدّيسين، إذ كانوا يعدّون أنفسهم أكبر الخطأة، لأنّهم يعيشون في حضرة الله واتّحاد دائم معه، وتشعّ أمام تأمّلاتهم قداسة الله التي لا توصف، وكأشعّة خارقة كانت تكشف لهم مكنونات ضعفهم وأخطائهم ونواقصهم. فكانوا يلتمسون رحمة الله ومغفرة خطاياهم بالصّلاة والتقشف وأفعال الإماتة، واللّجوء المتواتر إلى سرّ التوبة، وأعمال المحبّة والرّحمة. وكانوا يفعلون ذلك باسمهم وباسم جميع الناس.

 

على هذا الأساس نشأت في كنيستنا المارونيّة ممارسة النسك والتوحّد، بدءًا من أبينا القدّيس مارون، وصولًا إلى القدّيس شربل، وحاليًّا مع الحبساء الثلاثة من الرّهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة: الحبيس الأب يوحنا الخوند في دير مار أنطونيوس قزحيا، والحبيس الأب أنطوان رزق في المحبسة التابعة للدير على اسم القدّيس بولا، والحبيس الأب داريو اسكوبار الكولومبي الأصل، في محبسة سيدة فوقا، التابعة هي أيضًا للدير المذكور.

 

4. لنا في الكتاب المقدّس حدثان عن انكشاف ضعف الإنسان وخطاياه في حضرة الله.

 

الحدث الأوّل مع أشعيا النبي: "رأيتُ السيّد جالسًا على عرش عالٍ رفيع... ومن فوقه سارافون قائمون... وكان هذا ينادي ذاك ويقول: قدّوس قدّوس قدّوس، ربّ الجنود، الأرض كلّها مملوءةٌ من مجده. فتزعزعت أسس الأعتاب من صوت المنادين، وامتلأ البيت دخانًا فقلت: ويلٌ لي، قد هلكت لأنّي رجلٌ نجس الشفتَين، وأنا مقيم بين شعب نجس الشفاه، وقد رأت عيناي مجد ربّ الجنود. فطار إليّ أحد السرافين، وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح، ومسّ بها فمي وقال: ها إنّ هذه قد مسَّت شفتَيك، فأُزيل اثمك، وكُفِّرت خطاياك. ثمّ دعاه وأرسله" (اشعيا 6: 1-9).

 

الحدث الثاني مع سمعان بطرس: لمّا رأى الصيد العجيب بفضل كلمة يسوع الذي وجّههم للسير إلى العمق وإلقاء الشبكة من جديد، وربّما كان بطرس مشكّكًا فيها عندما أجاب: "يا معلّم، قد تعبنا الليل كلّه ولم نضبط شيئًا. ولكن لأجل كلمتك أرمي الشبكة". فعندما رجعوا إلى البَرّ والشباك تضبط سمكًا كثيرًا جدًّا، "وقع سمعان بطرس عند قدَمَي يسوع وقال له: "أسألك يا سيّدي أن تتباعد عنّي، لأني رجل خاطي". أما يسوع فأجاب: "لا تخفْ. فمن الآن تصطاد الناس للحياة" (لو5: 4-11).

 

5. من هذَين الحدثَين، تظهر ميزة مشتركة في الكنيسة، هي الإرسال. فالتوبة ومغفرة الخطايا والمصالحة مع الله والذات، تجعل التائب أهلًا ليحمل رسالة خاصّة من الله.

 

آشعيا أرسله الله نبيًّا. فكان لنا كتاب نبوآته النفيس المسمَّى بالإنجيل الخامس، لكونه تنبّأ عن تجسّد الكلمة ابن الله، عمّانوئيل، من عذراء، وعن آلامه وموته فداءً عن البشر أجمعين. وسمعان-بطرس أرسله الله راعيًا للكنيسة ورأسًا لرعاتها، حاملًا ملء سلطان الحلّ والربط.

 

في الصلاة والتوبة والتواضع تولد الدعوة الخاصّة بكلّ إنسان، ويتمّ الإرسال الإلهي، وتُعطى نعمة الالتزام بسخاء وفرح.

 

 ونذكر حادثة ثالثة، أدّت فيها التوبة إلى تغيير جذري في مجرى الحياة، وهي حادثة زكا العشّار. لم يكن زكا في حالة صلاة في الهيكل مثل ذاك العشار، بل كانت فيه صلاة داخلية تأملية، هي توقه لرؤية يسوع. وأظهر تواضعًا كبيرًا أمام المسيح. فنسي ذاته ومكانته الاجتماعية وغناه وتسلَّق جمّيزة ليرى يسوع، إذ كان قصير القامة.

 

الصلاة  التأملية والتواضع كانتا أساس توبته العظيمة وتغيير مجرى حياته، بفضل حضور يسوع في بيته. في المناسبة أعلن الربّ: "اليوم دخل الخلاص هذا البيت" ( لوقا 19: 1-9).

 

 

صلاة:

 

أيّها الربّ يسوع، لقد علّمتنا أن الصلاة وقوف أمام قداسة الله بتواضع وانسحاق قلب، وبالتماس رحمة الله، كما صلّى ذاك العشّار الذي أقرّ بخطيئته وضعفه. إشفنا من مرض الاعتداد بالنفس، والتكبّر على الآخرين واحتقارهم، ومن رؤية نقائصهم فنسترها بمحبّتنا.

آمين.

 

 

التنشئة المسيحية - البطريرك الراعي.

 

موقع بكركي.