نحن في الأحد الأخير قبل صعود الربّ إلى السَّماء، وفي ترائيه بحسب إنجيل القدّيس لوقا. جديد هذا الظهور أنّه يؤكّد سرّ يسوع الفصحيّ، أي موته وقيامته، كما جاء في الكتب المقدّسة، لمغفرة الخطايا والحياة الجديدة، ويودع الكنيسة الشهادة لسرّ المسيح، والكرازة باسمه لخلاص العالم.
1. ظهر يسوع للتلاميذ المجتمعين في مساء الأحد الذي قام فيه من بين الأموات، فخافوا واضطربوا وفرحوا وظنّوا أنّهم يرَون روحًا. (لو 24/ 36- 48) كلّ هذا لأنّ يسوع القائم من بين الأموت لن يُعرف من أحد بعين الجسد. فهو مسيح الإيمان: نعرفه بعين الإيمان في العقل، وبعين الحبّ في القلب.
2. دخوله إليهم والأبواب موصدة يدلّ على حضوره من دون خضوع لشريعة المكان والزمان، حضورًا دائمًا. أمّا وقوفه في وسطهم فيعني أنّه هو محور الجماعة المؤمنة، “الأوّل والأخير، الألف والياء” (رؤيا 22: 13)، على مثال النقطة التي ترتكز عليها الدائرة، لكي تتكوّن بخطّها المؤلّف من نقاط متتالية ومترابطة. هكذا بالمسيح نصبح جماعة مسيحيّة مؤمنة وموحَّدة ومتناسقة، نصبح كنيسة المسيح بالمعمودية والميرون والقربان، برباط الرّوح القدس.
وهكذا، العائلة المسيحيّة تصبح بنعمة السّر المقدّس “جماعة حياة وحبّ” على صورة الثالوث القدوس (تك1: 26) (دستور الكنيسة في عالم اليوم، 48)، “وجماعة متّحدة وموحَّدة” على مثال اتّحاد المسيح بالكنيسة (راجع أفسس 5: 21-32).
3. في الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ” الذي أصدره قداسة البابا فرنسيس في أعقاب السينودس الخاصّ بالعائلة، تاريخ 19 أذار 2016، يكتب قداسته: “الحبّ هو في وسط العائلة. ويقتضي من الزوجَين هبة الذات المتبادلة بينهما بكلّ أبعادها العاطفيّة والجسديّة وفقـًا لتصميم الله. والزوجان متأصّلان في المسيح الذي يأتي لملاقاتهما في سرّ الزواج، ويمكث معهما. في التجسّد اتّخذ يسوع الحبّ البشري، ونقـَّاه، وسار به إلى كماله. ويهبه إلى الزوجَين مع روحه القدّوس، ويعطيهما القدرة على عيشه بإيمان ورجاء ومحبّة. وبهذا، يكون الزوجان بمثابة مكرَّسين، ويعملان بنعمة خاصّة على بناء جسد المسيح، ويشكّلان “كنيسة منزليّة” (الدستور العقائدي في الكنيسة، 11). الكنيسة من جهّتها، لكي تفهم تمامًا سرَّها، إنّما تنظر إلى العائلة البشريّة التي تُظهره بشكل أصيل (الفقرة 26).
العائلة المسيحيّة، التي تولد من الكنيسة، تصبح مرآة الكنيسة.
4. في ضوء هذا التّعليم، ندرك أنّ المحبّة تحتلّ الوسط في كنيسة المسيح. والمسيح “الواقف في الوسط” هو الله المحبّة، الذي منه يغرف المؤمنون والمؤمنات الحبّ الذي يعطي معنى لحياتهم، ودفعًا لنشاطاتهم، ومصدرًا لمبادراتهم السَّخيَّة، وقوّة للخروج من الذات نحو الآخرين في حاجاتهم، ونحو حقول الرِّسالة، من دون قيد مكانيّ أو زمنيّ.
المسيح “الواقف في الوسط” هو المسيح في سرّ القربان الذي حوله تلتئم الجماعة، وبخاصّة في يوم الربّ، الأحد، ذكرى وقوفه في وسط الكنيسة الناشئة.
5. “أراهم يديه ورجليه” (الآية 40). أراهم آثار الصَّلب التي أصبحت هوّيته الدّائمة الحضور في ذبيحة القدّاس حيث تتحقـَّق “الآن وهنا” بشكل غير دمويّ، ذبيحة الجلجلة إيَّاها. هوية المسيح هذه نتمثلها في الصَّليب الذي هو راية الكنيسة والمسيحيّين المرفوعة فوق المذابح، وعلى قبب الكنائس، وعلى التلال العالية، وعلى صدور المؤمنين والمؤمنات. إنّ هويّة المسيح تصبح هويّتنا عندما نرسم إشارة الصَّليب على جبيننا وصدورنا.
هويّة المسيح، التي هي آلامه وصلبه وموته، ظاهرة في المعوَّقين والمرضى وسائر المتألِّمين جسديًّا ومادّيًا ونفسيًّا ومعنويًّا، وفي كلّ محتاج إلى التفاتة ورحمة، على ما جاء في إنجيل الدينونة (متى 25: 31-46).
لم يصدّق التلاميذ أنّه هو الرَّبّ، وقد رأوا آثار الصَّلب في يدَيه ورجلَيه. ما يعني أنّ غالبًا ما تنحجب عنّا رؤية المسيح في ساعات الألم والشدّة واليأس والقنوط. ينبغي ألّا ننغلب لها، بل أن نلتمس نعمة الإيمان لكي نظلّ ثابتين بوجه المحنة، ونلتمس من المسيح القائم من الموت أن “يقيمنا” من ظلمة الوجع إلى نور رؤية وجه المسيح المتألِّم والمعزِّي والمقوِّي، وجه المسيح القائم من الموت.
6. شرح لهم يسوع ما كُتب عنه: إنّه يتألّم ويقوم في اليوم الثالث” (الآيتان 44 و45). مبادرة يسوع هذه تدلّ على أنّه يخاطب كلّ متألّم وموجع في قرارة نفسه، ويفتح ذهنه ليفهم أبعاد وجعه وحالته، كما فعل الرَّبّ مع التلاميذ. ليس الصَّليب رمزًا جامدًا، بل هو المصلوب الناطق. هذا المصلوب كلّم فرنسيس الأسيزي وطلب منه إصلاح كنيسته، وكلّم ريتا دي كاشّا بالشّوكة التي طارت من جبينه واستقرّت في جبينها، وكلّم بادري بيو بطبع جراحاته في يديه، وكلّم شربل في عزلته وتقشّفاته، ورفقا في عماها وتفكّك أوصال جسدها، وكلّم أبونا يعقوب في كلّ متألّم بكلّ أنواع آلام البشر.
هنا يتّضح قول القدّيس بولس في رسالته إلى الكورنثيّين: “آليت على نفسي أن لا أعرف شيئًا في ما بينكم، إلّا يسوع المسيح، وإيّاه مصلوبًا” (1كور2: 2).
7. وينادي باسم يسوع بالتوبة ومغفرة الخطايا في جميع الأمم” (الآية 47). بهذه الكلمات تتجلّى رحمة الله التي تغفر خطايا البشر باسم يسوع، الإله الذي افتدى البشريّة بتجسّده وموته على الصَّليب، والذي بنعمة قيامته من الموت “يقيم” كلّ تائب وتائبة من موت الخطيئة وظلمات الحياة.
يوبيل سنة الرَّحمة مناسبة مقدَّسة لانفتاح القلوب التّائبة على رحمة الله الغافرة. وعندما ننعم بسعادة هذه الرَّحمة، نكون رحماء مع بعضنا البعض كما أنّ الله رحيم.
هذه “المناداة باسم يسوع للتوبة ومغفرة الخطايا” هي رسالة الكنيسة المعروفة بالكرازة. وقد بدأها وأعلنها يسوع نفسه في بداية حياته العامّة: “توبوا، وآمنوا بالإنجيل” (مر1: 15). وسبقه يوحنّا المعمدان بهذه المناداة: “توبوا، فقد اقترب ملكوت السَّماوات” (متى 3: 2).
8. الكنيسة، التي تكرز باسم يسوع لمغفرة الخطايا، تؤدّي رسالتها بواسطة كرازة رعاتها وكهنتها ورهبانها وراهباتها، وبواسطة أبنائها وبناتها الملتزمين بمقتضيات الحياة المسيحيّة، وبواسطة أخوياتها ومنظّماتها وحركاتها الرسوليّة التي تواصل تثقيف إيمان أعضائها، وتمارس أعمال المحبّة والرَّحمة.
وتؤدّي الكنيسة هذه الرِّسالة بواسطة مؤسّساتها التربويّة والاستشفائيّة والاجتماعيّة والإنمائيّة، ليس فقط من خلال الخدمات التي تُقدِّمها، بل أيضًا من خلال مساعدة العائلات على الاستفادة من هذه المؤسّسات، ولاسيّما في هذه الظروف الاقتصاديّة والمعيشيّة الصَّعبة. هي الكنيسة الشَّاهدة لرحمة الله مدعوّة، برعاتها وشعبها ومؤسّساتها، لمضاعفة جهودها وتضحياتها، لكي تظلّ أكثر فأكثر قريبة من أبنائها وبناتها. فالله يجود عليها من كنزه الغنيّ والخفيّ لكي تواصل عطاءها بالاتّكال على عناية الله.
* * *
ثانيًا، الإرشاد الرسوليّ للبابا فرنسيس: “فرح الحبّ”
1. أصدر قداسة البابا فرنسيس بتاريخ 19 أذار 2016 إرشادًا رسوليًّا في أعقاب سينودس الأساقفة الرومانيّ الذي انعقد حول موضوع العائلة، على مرحلتَين في تشرين الأوّل 2014 وفي تشرين الأوّل 2015. عنوان الإرشاد: “فرح الحبّ”، ويتناول “الحبّ في العائلة” الذي هو فرح الكنيسة. وبالرّغم من علامات أزمة الزواج، تبقى حيّةً الرغبةُ بإنشاء عائلة، وبخاصّة لدى الشباب، وتعني الكنيسة بالعمق. وكجواب على هذا التوق، فإنّ البشرى المسيحيّة المختصّة بالعائلة هي بالحقيقة بُشرى جديدة (الفقرة1).
2. هذا الإرشاد الرسوليّ يتضمّن:
أ – نتائج دورتَي السينودس بشأن العائلة.
ب – اعتبارات أخرى بإمكانها أن توجّه التفكير والحوار والممارسة الراعوية؛ وأن تقدّم تشجيعًا وتحفيزًا ومساعدة للعائلات في التزامها، وفي صعوباتها (الفقرة 4).
3. يشير البابا فرنسيس إلى أنّ “الإرشاد” يكتسب معنى خاصًّا في سياق سنة الرَّحمة اليوبيليّة لسببَين:
الأوّل، لأنّ الإرشاد يحفـِّـز العائلات المسيحيّة على تقييم هبات الزواج والعائلة، والمحافظة على حبّ شديد معزَّز بالقيم من مثل: السَّخاء والالتزام والأمانة والصبر.
الثاني، لأنّ الإرشاد يبغي تشجيع كلّ واحد وواحدة ليكون علامة رحمة وقرب حيث لا تتحقـَّق الحياة العائليّة بالشَّكل الكامل، أو لا تسير في خطّ السَّلام والفرح (الفقرة 5).
4. يتوسّع البابا فرنسيس في موضوع الإرشاد، بتسعة فصول تتناول النقاط التالية:
أ – تعليم الكتب المقدّسة الذي يوجّه الموضوع، بالإضافة إلى العناصر الأساسيّة من تعليم الكنيسة حول الزواج والعائلة، وتسليط ضوئها على الواقع الرّاهن للعائلات. هذه الثلاثة مخصّصة لإبراز مفهوم الحبّ في الزواج والعائلة.
ب – رسم خطّة راعوية شاملة توجّه نحو بناء عائلات صلدة وخصبة وفقـًا للتصميم الإلهيّ، ونحو تربية سليمة للأولاد.
ج – الدّعوة إلى الرَّحمة والتمييز الراعويّ بوجه الأوضاع التي لا تتجاوب تمامًا مع ما يعرض الربّ.
د – رسم خطوط وجيزة عن روحانيّة العائلة (الفقرة 6).
5. يعطي البابا فرنسيس توجيهًا عمليًّا لقراءة هذا الإرشاد الرسوليّ:
لا يُقرأ بشكل عموميّ ومتسرّع، بل يُعمّق فيه بصبر، مقطعًا مقطعًا، أو بالعودة إلى نقاط محدّدة نحتاج إليها في كلِّ ظرف خاصّ.
“الإرشاد” موجّه إلى الأزواج والعائلات وإلى العاملين في الحقل الراعويّ.
الفصلان الرّابع (الحبّ في الزواج) والخامس (الحبّ الذي يصبح خصبًا) مرجعان أساسيّان للأزواج، فيما العاملون في الحقل الراعويّ معنيّون بنوع خاصّ بالفصل السَّادس (توجيهات راعوية). أمّا الفصل الثامن (مواكبة التعثّر في الزواج والعائلة وتمييزه وإصلاحه) فيعني الجميع (الفقرة 7).
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت المحور الوحيد الذي يجمع الكنيسة والجماعة المؤمنة والعائلة المسيحيَّة. منك ننطلق فأنت “الألف والبداية”، وإليك نسير فأنت “الياء والنهاية”. أعطنا أن نجمع لك وحدك القريب والبعيد، بروحانيّة يوحنّا المعمدان: “عليَّ أن أنقص وعلى المسيح أن ينمو”. إمنحنا نعمة رؤيتك ومعرفتك في كلّ صليب يرافق حياتنا وحياة كلّ أخ وأخت متألّم جسديًّا ونفسيًّا ومعنويًّا. وكما انحنيتَ على جراح البشريّة المتألّمة، اجعلنا على مثالك شهودًا لرحمتك أسخياء ومُحبِّين. بارِك الأزواج والعائلات وفرِّحهم بسعادة الحبّ النابع من قلب الله الواحد والثالوث، والمسكوب في قلوبهم لينقـِّي ويقدّس ويكمّل حبّهم البشريّ.
ومع كلّ عائلة تعيش “فرح الحبّ” نرفع نشيد المجد والتّسبيح لمحبَّة الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.