ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الخامس لزمن الصوم في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان "ظهر برُّ الله". استهل الأب كانتالاميسا تأمّله بالقول إنّ الروح القدس يقودنا إلى ملء الحقيقة حول شخص المسيح وسرِّه الفصحي، وينيرنا أيضًا حول جانب جوهريٍّ من إيماننا بالمسيح، أي حول الأسلوب الذي يبلغنا فيه اليوم الخلاص الذي حققه المسيح في الكنيسة، بمعنى آخر حول مشكلة تبرير الخاطئ بواسطة الإيمان.
يكتب القديس بولس في الرسالة إلى أهل روما: "أَمَّا الآن فقَد أَظهِرَ بِرُّ اللّهِ بِمَعزِلٍ عنِ الشَّريعة، تَشهَدُ لَه الشَّريعةُ والأَنبياء، هو بِرُّ الله وطَريقُه الإِيمانُ بِيَسوعَ المسيح، لِجَميعِ الَّذينَ آمَنوا، لا فَرْق. ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله، ولكِنَّهم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع، ذاكَ الَّذي جَعلَه اللهُ كَفَّارةً في دَمِه بِالإِيمان ليُظهِرَ بِرَّه، بإِغضائِه عنِ الخَطايا الماضِيَةِ في حِلمِه تَعالى، لِيُظهِرَ بِرَّه في الزَّمَنِ الحاضِر فيَكونَ هو بارًّا وُيبَرِّرَ من كانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوع. فأَينَ السَّبيلُ إِلى الافتِخار؟ لا مَجالَ لَه. وبأَيَّ شَريعة؟ أَبِشَريعةِ الأَعمال؟ لا، بل بِشَريعةِ الإِيمان ونَحنُ نَرى أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بالإِيمانِ بمَعزِلٍ عن أَعمالِ الشَّريعة" (روما 3، 21- 28).
لكن كيف أمكن هذه الرسالة المعزية والمنيرة أن تصبح جوهر الخلاف في قلب المسيحيّة في الغرب وتقسم الكنيسة وأوروبا إلى قارتين دينيّتين مختلفتين؟
إنَّ المجمع التريدنتيني الذي عُقِد كجواب على الإصلاح، لم يصعب عليه أن يعيد التأكيد على قناعة أولويّة الإيمان والنعمة علمًا أن الأعمال والحفاظ على الشريعة هما ضروريان داخل عمليّة الخلاص بحسب قول القديس بولس: "الإيمان العامل بالمحبّة"، وبالتالي يمكننا أن نفهم هكذا كيف أصبح ممكنًا، في جو الحوار المسكوني الجديد، أن نصل إلى إعلان مشترك للكنيسة الكاثوليكيّة والاتحاد العالمي للكنائس اللوثريّة حول التبرير بالنعمة من خلال الإيمان والذي تمّ التوقيع عليه في الحادي والثلاثين من تشرين الأول أكتوبر لعام 1999.
بعد لوثر والمصلحان الكبيران كالفن وزوينكلي، ساهمت عقيدة التبرير المجاني بالإيمان، في الذين يتبعونها، بتحسين نوعيّة الحياة المسيحية بفضل ترجمة كلمة الله إلى اللغة العاميّة والأناشيد المُلهَمة المتعددة والتي وضِعت في متناول الشعب. وبالتالي وعلى الصعيد الخارجي أصبح موضوع التبرير بواسطة الإيمان فقط الحد الفاصل بين الكاثوليك والبروتستانت، وامتدّ هذا التباين وأصبح أيضًا تباينًا بين المسيحيّة واليهوديّة.
بدءًا من السبعينات حصل انقلاب جذريّ في هذا القطاع للدراسات البيبليّة، وهو ما نسمّيه "الدرب الثالثة للبحث حول يسوع التاريخي"، وتقوم وجهة النظر الجديدة هذه على الاعتراف بأن المسيحيّة قد تكوّنت داخل اليهوديّة، وبالتالي فالمعيار الذي يُعتمد للحكم على صحّة قول أو تصرّف من حياة يسوع هو توافقه مع الديانة اليهوديّة في عصره.
ويمكننا أن نرى بوضوح منافع هذا التقارب الجديد وأن نجد الاستمرار في الوحي. فيسوع يندرج في العالم اليهودي في خط أنبياء الكتاب المقدّس، مما يُظهر غنى وتنوّع الديانة اليهوديّة في الحقبة التي عاشها يسوع. لكن لا يمكننا أن نعتبر يسوع يهوديًّا مثل غيره إذ أنه يضع نفسه فوق موسى ويعلن نفسه "سيّد السبت".
ولكن بالنسبة للقديس بولس يدلُّ هذا "المنظور الجديد" على عدم كفايته. ووفقا لأحد ممثليه الأكثر شهرة، فإن دين الأعمال، الذي يواجهه الرسول بقوة في رسالته، لا وجود له في الحياة الحقيقية. إذ أن اليهودية، حتى في زمن يسوع، هي ديانة تقوم على مبادرة الله الحرة ومحبّته، وبالتالي فالحفاظ على الشريعة هو النتيجة لهذه المبادرة ولا السبب، وهو يُساهم للبقاء في العهد وليس للدخول فيه.
في الفصول السابقة من الرسالة إلى أهل روما يصيغ بولس الرسول إدانة شاملة: "لا فَرق. ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجدَ الله" (رما 3، 22- 23)؛ ولثلاث مرات نجد العبارة "يهود ووثنيين"، لكن كيف يمكننا أن نفكّر بأن إدانة شاملة كهذه يتمّ تطبيقها فقط على مجموعة صغيرة من المؤمنين؟ إن عقيدة التبرير المجاني بالإيمان ليست من اختراع القديس بولس، وإنما هي الرسالة الجوهريّة لإنجيل المسيح.
لا بل نجدها في كلمة "إنجيل" أي البشرى السارة والتي لم يخترعها بولس من العدم. ففي بدء رسالته كان يسوع يعلن "تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة"، لكن كيف يمكننا أن نسمي هذا الإعلان "بشرى سارة" لو كان مجرّد تهديد من أجل تغيير الحياة؟ إن ما يعنيه يسوع بعبارة "مَلَكوتُ الله" - أي مبادرة الله الخلاصيّة وخلاصه للبشريّة – يسمّيه القديس بولس "بر الله" ولكنه الواقع عينه. ويسوع نفسه يقرّب ملكوت الله وبرّه من بعضهما البعض عندما يقول: "اطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَ الله وبِرَّه".
عندما كان يسوع يقول: "توبوا وآمِنوا بِالبِشارة" كان يعلّم التبرير بواسطة الإيمان. إذ قبله كانت التوبة تعني العودة إلى الوراء أي إلى العهد، من ثمّ اتخذت معنى أخلاقيٍّ وتكفيريّ يتم من خلال تغيير السلوك، أما مع يسوع فتأخذ هذه الكلمة معنى جديدًا، إذ لم تعد التوبة تعني عودة إلى الوراء إلى العهد القديم وإنما قفزة إلى الأمام للدخول في العهد الجديد والتمسّك بهذا الملكوت الذي ظهر والدخول إليه من خلال الإيمان.
لكن كيف يمكننا أن نبشِّر اليوم بالتبرير بواسطة الإيمان؟ ينبغي أن يتمّ التبشير بالتبرير بواسطة الإيمان بيسوع المسيح بشكل قويّ اليوم أكثر من أي وقت مضى. لا بالتعارض مع الأعمال التي يتحدّث عنها العهد الجديد وإنما مع ادعاء إنسان اليوم بالخلاص فقط بواسطة علمه والتكنولوجيا أو بواسطة روحانيات مُهدِّئة. هذه هي الأعمال التي يثق بها إنسان اليوم.
هناك أمر مهمّ أيضًا ينبغي علينا أن نأخذه جميعًا، لوثريون وكاثوليك، من بادئ الإصلاح، نحن نعلم أنّ التبرير المجانيِّ بواسطة الإيمان بالنسبة له هو أولاً خبرة معاشة تحولّت بعدها إلى نظريّة. ولكن وللأسف أصبحت بعده مجرّد أطروحة لاهوتيّة ينبغي الدفاع عنها ولا خبرة شخصيّة مُحرِّرة تُعاش في العلاقة الحميمة مع الله.
وفي هذا السياق يشير الإعلان المشترك لعام 1999 بشكل مناسب جدًا إلى أن توافق الآراء الذي توصَّل إليه الكاثوليك واللوثريون بشأن الحقائق الأساسية لعقيدة التبرير يجب أن يكون له نتائج وأن يجد له جوابًا ليس في تعليم الكنيسة وحسب وإنما في حياة الأشخاص أيضًا.
لذلك يجب ألا تغيب عن بالنا النقطة الرئيسية في رسالة القديس بولس. إنَّ ما يريد بولس الرسول أن يؤكِّده في المقام الأول في الرسالة إلى أهل روما ليس أننا مبرَّرون بالإيمان وإنما أننا مبرّرون بالإيمان بالمسيح؛ وبأننا لسنا مُبرَّرين من قبل النعمة وحسب وإنّما نحن مبرّرون بفضل نعمة المسيح. لأنّ المسيح هو جوهر الرسالة، قبل النعمة والإيمان، وهو الأداة التي تقف بها الكنيسة اليوم أو تسقط، وهو شخص وليس عقيدة!
إذاعة الفاتيكان.