ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا صباح يوم الجمعة تأمّله الثاني لزمن المجيء في كابلة أمّ الفادي في القصر الرَّسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان "الإله الحيّ هو الثالوث الحيّ" واستهل تأمّله متسائلاً: إلى من نتوجّه نحن المسيحيون عندما نلفظ كلمة الله بدون تحديد؟ إلى من تشير كلمة "أنت" عندما نقول في المزمور: "يَا اللهُ، إِلَهِي أَنْتَ"؟ هذه الـ "أنت" ليست ببساطة الله-الآب، كما أنها ليست جوهر الطبيعة الإلهية التي لا يمكن تحديدها. إن الإله الواحد هو الآب الذي يلد الابن ومنهما ينبثق الروح القدس وينقل إليهما ألوهيّته بكاملها. إنّه الله شركة المحبة حيث وحدة وثالوث ينبعثان من الجذر عينه ومن الفعل عينه ليكونا وحدة ثالوثيّة. وبالتالي فهذا الـ "أنت" الذي نتوجّه إليه في الصلاة يمكنه أن يكون، بحسب الحالات والنعمة، كلاً من الأقانيم الإلهية الثلاثة: الآب أو الابن يسوع المسيح أو الروح القدس، بدون أن يُفقد الكامل. لذلك فإله المسيحيين الحيّ ليس إلا الثالوث الحيّ!
ما من دراسة حول الثالوث بإمكانها أن تدخلنا في علاقة حيّة معه بقدر ما يقوم بذلك التأمل في أيقونة الثالوث لـ "روبليف". لكن علينا أن نلحظ فورًا أمرًا حول هذه الأيقونة. هي لا تمثل بشكل مباشر الثالوث الذي، وبحسب التعريف، هو خفيّ ويفوق الوصف. بل تمثل بشكل مباشر مشهد الملائكة الثلاثة الذين ظهروا لإبراهيم عِندَ بَلُّوطَاتِ مَمرَا، ويظهر هذا الواقع إذ نرى في الأيقونة أيضًا إبراهيم وسارة والعجل.
إنَّ عقيدة وحدة الله الثالوث يُعبّر عنها في أيقونة "روبليف" في واقع أنّه يميّز بين ثلاثة أشخاص منفصلين عن بعضهم البعض ولكنهم متشابهين. يرتدون ثلاثتهم ثوبًا أزرقًا كعلامة للطبيعة الإلهية المشتركة بينهم، ولكنّهم يرتدون فوقه أو تحته لونًا يميّز كل واحد بينهم. فالآب - ويرمز إليه ملاك اليسار – نراه في ألوان غير محدّدة تبدو وكأنها نور كعلامة لعدم رؤيتنا له وصعوبة بلوغه؛ الإبن – في الوسط – يرتدي قميصًا داكنًا علامة للبشريّة التي اتّخذها؛ والروح القدس – ملاك اليمين – يرتدي معطفًا أخضر علامة للحياة، لكونه هو الذي "يعطي الحياة". من ثمَّ هناك أمران يؤثِّران فينا لدى تأمّلنا في أيقونة الثالوث لـ "روبليف" وهما السلام العميق والوحدة اللذان ينبعان منها معًا، إذ تنبعث من الأيقونة صرخة صامتة: "كونوا واحدًا كما نحن واحد".
من رؤية الثالوث هذه يمكننا أن نفهم إذًا الدعوة إلى الوحدة. فجميعنا نريد الوحدة؛ إذ بعد كلمة سعادة ما من كلمة أخرى تجيب على حاجة ملحَّة لقلب الإنسان ككلمة وحدة. ولكن إن كنا جميعنا نريد الوحدة ونرغب فيها من عمق قلوبنا فلماذا إذا يصعب علينا تحقيقها؟ نحن نريد أن نحقق الوحدة ولكن كل منا بحسب وجهة نظره! لذلك يدلنا الثالوث إلى المسيرة الحقيقيّة نحو الوحدة. إنطلاقًا من الأقانيم الإلهية، لا بل من مبدأ الطبيعة أكّد الشرقيون الوحدة الإلهية بأسلوب مختلف وذلك من خلال عقيدة الـ "περιχώρησις" (والتي تعني حرفيًّا التداخل المتبادل) والتي بفضلها تتّحد الأقانيم الثلاثة بدون أن تختلط، ويقوم هذا المبدأ على كلمات المسيح: "أنا في الآب والآب فيَّ".
لكن يسوع قد وسّع هذا المبدأ وصولاً إلى العلاقة التي تجمعنا به إذ قال: "تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم"، وأيضًا: "أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة". وبالتالي فدرب الوحدة تقوم على أن نقتدي فيما بيننا وفي الكنيسة بهذا التداخل الإلهي. ويشير القديس بولس إلى أساسه إذ يقول: "نَحنُ في كَثْرَتِنا جَسَدٌ واحِدٌ في المسيح لأَنَّنا أَعضاءُ بَعضِنا لِبَعْض". من ثمَّ يساعدنا بولس الرسول لكي نفهم، في الواقع، معنى عيش هذا التداخل فيما بيننا ويكتب: "فإِذا تَأَلَّمَ عُضوٌ تَأَلَّمَت مَعَه سائِرُ الأَعضاء، وإِذا أُكرِمَ عُضوٌ سُرَّت معَه سائِرُ الأَعضاء"
إن الأقانيم الثلاثة تلتزم على الدوام في تمجيد بعضها البعض، فالآب يمجّد الابن والابن يمجّد الآب والبارقليط سيمجّد الابن. الابن يعلّمنا أن نصرخ "أبا أيها الآب!" والروح القدس يعلمنا أن نهتف "يسوع هو الرب!" و"مورانتاه! تعال أيها الرب!". وبالتالي فإن التأمّل في الثالوث يساعد فعلاً في التغلّب على "الخصام في العالم". فالمعجزة الأولى التي حققها الروح القدس في العنصرة كانت أنّه جعل الرسل "قَلبًا واحِدًا ونَفْساً واحِدة"؛ وهو مستعدٌّ على الدوام ليكرِّر هذه المعجزة ويحول الصراع إلى وفاق.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول ولكن هناك أمر آخر يمكننا القيام به إزاء الثالوث الأقدس غير التأمل به والتشبّه به وهو الدخول فيه. لا يمكننا أن نعانق المحيط ولكن يمكننا أن ندخل فيه وكذلك أيضًا فيما يتعلّق بالثالوث، لا يمكننا أن نعانق سرّ الثالوث ولكن يمكننا الدخول فيه، والمسيح قد ترك لنا الوسيلة الملموسة للقيام بذلك وهي الإفخارستيا.
ونرى في أيقونة "روبليف" الملائكة الثلاثة جالسين على مائدة عليها كأس يمكن أن نرى فيها حملاً. وهنا أيضًا يمكن للإفخارستيا أن تنيرنا حول عقيدة التداخل في الثالوث، إذ تقول لنا إنّه حيث يوجد أقنوم من أقانيم الثالوث يكون الاثنين الآخرين أيضًا إذ لا ينفصلون عن بعضهم البعض، وبالتالي تتحقق كلمات يسوع فعلاً عند المناولة: "أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ"، و"من رآني رأى الآب" ومن ينالني ينال الآب.
إنَّ الثالوث الأقدس ليس مجرّد سرّ أو مادة من إيماننا بل هو واقع حي وحقيقة نابضة، وبالتالي أكرر ما قالته في بداية التأمُّل: إن الإله الحي في الكتاب المقدّس ليس إلا الثالوث الحي. ليدخلنا الروح القدس نحن أيضًا في سرِّ الثالوث وليجعلنا نتذوّق رفقته اللطيفة.
إذاعة الفاتيكان.