ألقى واعظ القصر الرّسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمّله الثّاني لزمن المجيء في كابلة أمِّ الفادي في القصر الرّسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهلّه بالقول
يتمحور تأمّلنا الثّاني حول الفصل الخامس من الدّستور العقائديّ في الكنيسة "نور الأمم" والذي يحمل عنوان "الدّعوة الشّاملة إلى القداسة في الكنيسة"، ونقرأ هذه الدّعوة منذ بداية الفصل بهذه الكلمات: "إنَّ الكلَّ في الكنيسة مدعوّون إلى القداسة، سواء أكانوا السّلطة أو مَن تسوسهم على ما جاء في كلام الرّسول: "فإنّ مشيئة الله إنَّما هي تقديس نفوسكم (1 تس 4، 3)".
أوّل ما ينبغي علينا فعله عندما نتحدّث عن القداسة هو أن نُحرِّرَ هذه الكلمة من اللّاموضوعيّة والخوف اللذين قد غرستهما في الأذهان بعض التصوّرات الخاطئة التي بنيناها حولها. يمكن للقداسة أن تتضمّن ظواهر وعلامات خارقة ولكن هذه الأمور لا تُثبت هويّتها. فإن كان الجميع مدعوّين إلى القداسة فهذا لأنّها في متناول الجميع وتشكّل جزءًا طبيعيًّا من الحياة المسيحيّة.
فالقدّيسون هم كالأزهار وليس هناك فقط تلك الأزهار التي نزيّن بها المذابح في الكنائس. كم من الأزهار تُزهر وتموت في الخفاء بعد أن تكون قد نشرت أريجها بصمت في محيطها!
إنّ الدّافع إلى القداسة واضح منذ البداية وهو لأنَّ الله قدوس: "كونوا قدّيسين، لأنّي أنا الربَّ إلهكم قدّوس" (أحبار 19، 2). إنّ القداسة، في الكتاب المقدّس، هي ملخّص لجميع صفات الله.
فأشعيا يدعو الله "قدّوس إسرائيل"، والصّرخة التي ترافق ظهور الله لدى دعوته له هي "قدوس، قدوس، قدوس". ومريم أيضًا تعكس جيّدًا فكرة إله الأنبياء والمزامير هذه عندما أعلنت في نشيدها: "واسمه قدّوس". أمّا فيما يختص بمحتوى فكرة القداسة، فالكلمة البيبليّة "قدّوس" تعني المفصول والمختلف. والله هو قدّوس لأنّه مختلف بالكامل عمّا هو الإنسان وفكره وعمله.
وبالتّالي يصف الكتاب المقدّس بالقداسة أيضًا أحكام الله وأعمالَه وسبُلَه. فالقداسة هي مبدأ إيجابي بالرّغم من أنّه يعني الاختلاف والفصل وهو يشير إلى "الملء الكامل"، والكتاب المقدّس يعبّر بوضوح عن فكرة القداسة هذه عندما يقول إنّ الله: "لم يُضَف إليه شيء ولم يُحذَف منه شيء" (سيراخ 42، 21).
عندما نحاول أن نرى كيف يدخل الإنسان في إطار قداسة الله وماذا يعني أن يكون المرء قدّيسًا، تظهر بوضوح هيمنة فكرة الطقوس في العهد القديم إذ نجد أن وسائل القداسة وسُبلها هي أشياء وأماكن وطقوس ووصفات.
فالجزء الأكبر من سِفرَي الخروج والأحبار يتضمّن "قانون القداسة" و"شرائع القداسة" كما ولو كانت القداسة محصورة في تطبيق بعض القوانين والشّرائع. كما ونقرأ في الأنبياء والمزامير على الأسئلة "من ذا الذي يصعد جبل الربّ، ومن ذا الذي يُقيم في مقرِّ قُدسه؟" أو "من منّا يسكُن في النّار الآكلة" يأتي الجواب ذات طابع أخلاقيّ: "النقيّ الكفّين والطاهر القلب" و"السّالك بالبرّ والمتكلّم بالاستقامة" (مز 24، 3؛ أشعيا 33، 24). حتّى في أيّام يسوع كانت تسيطر لدى الفريسيّين وجماعة قمران فكرة أنَّ القداسة والبرّ مرتبطان بالطهارة الطقوس والحفاظ على بعض الشّرائع.
وإذ ننتقل إلى العهد الجديد يُمكننا أن نرى تعريف "الأمّة المقدّسة" والتي أصبحت فيما بعد التعريف للمسيحيّين. فالمعمّدون بالنسبة لبولس هم "مدعوّون ليكونوا قدّيسين" أو "دعوتهم أن يكونوا قدّيسين". فهو يدعو المعمّدين عادة بعبارة "القدّيسين"، ويقول إنّ المؤمنين قد اختارهم الله "ليكونوا في نظره قدّيسين بلا عيب في المحبّة" (راجع أفسس 1، 4).
فالقداسة إذًا لم تعد مجرّد طقس أو شريعة وإنّما أصبحت أنطولوجيّة ووجوديّة: لا تقوم في اليدين وإنّما في القلب وليست قرارًا خارجيًّا وإنّما داخليًّا يطال الإنسان وتتلخّص بالمحبّة. ووسائل القداسة وسبلها لم تعُد أشياء وأماكن وطقوسًا ووصفات وإنّما شخص وهو يسوع المسيح. وأصبحت القداسة تقوم على الإتّحاد بيسوع المسيح لأنّه قداسة الله بذاتها التي جاءت إلينا شخصيًّا.
يمكننا أن ندخل في قداسة المسيح هذه من خلال طريقتين: بالامتلاك والتشبُّه. الطريقة الأولى تتحقـّق بواسطة الإيمان والأسرار. فالقداسة هي أوّلاً عطيّة ونعمة، إنّها عمل الثالوث الأقدس.
وبما أنّنا، وبحسب قول بولس الرّسول، ننتمي للمسيح ولسنا لأنفسنا فهذا يعني بأنّنا نملك أيضًا قداسة المسيح. وبهذا السّياق يكتب القدّيس نيكولا كابَسيلاس: "ما هو للمسيح هو لنا أكثر ممّا هو منّا" وهذه هي "الخطوة الشّجاعة" التي ينبغي علينا أن نحقـّـقها في حياتنا الروحيّة. والقدّيس بولس يعلّمنا كيفيّة القيام بهذه "الخطوة الشّجاعة" عندما يعلن بأنّه لا يريد أن يَكونَ بِرّه ذلك الَّذي يأتي مِنَ الشَّريعة، بلِ البِرُّ الَّذي يُنالُ بِالإِيمانِ بالمسيح، أَيِ البِرُّ الَّذي يأتي مِنَ الله ويَعتَمِدُ على الإِيمان (فيل 3، 5- 10)، ويقول إنّ المسيح صار لنا "بِرّاً وقَداسةً وفِداءً" (1 كور 1، 30)، وبالتالي يمكننا أن نطالب بقداسته كقداسة لنا بكلّ مفاعيلها. فعندما نقول إنّنا نُشارك في قداسة المسيح فنحن نقول إنّنا نشارك بالرّوح القدس الذي يأتي منه. فالحياة في المسيح هي أيضًا كما يقول القدّيس بولس حياة في الرّوح القدس، ولذلك يكتب القدّيس يوحنّا: "نَعرِفُ أَنَّنا فيه نُقيمُ وأَنَّه يُقيمُ فينا بِأَنَّه مِن رُوحِه وَهَبَ لنا" (1 يو 4، 13).
إنّ الرّوح القدس إذًا هو الذي يقدّسنا، الرّوح القدس الذي حلّ على يسوع في النّاصرة والذي من صليبه وفي العنصرة أُفيض على الكنيسة. لذلك فالقداسة التي فينا هي قداسة المسيح عينها، ونحن قد قُدِّسنا حقًّا بالمسيح يسوع (1 كور 1، 2). وكما في المعموديّة يُغسل جسد الإنسان بالماء هكذا أيضًا، يُمكننا القول، تُعمّد نفسُه في قداسة المسيح كما يقول القدّيس بولس: "فغُسِلتُم، بل قُدِّستُم، بل بُرِّرتُم بِاسمِ الرَّبِّ يسوعَ المسيح و بروحِ إِلهِنا" (1 كور 6، 11).
بالإضافة إلى الإيمان والأسرار هناك أيضًا التشبّه بالمسيح من خلال الأعمال والجُهد الشّخصيّ. فالأعمال الصّالحة بدون الإيمان ليست صالحة والإيمان بدون الأعمال ليس إيمانًا حقيقيًّا، ويسوع يقول لنا إنّ في الدينونة الأخيرة هناك من سيتّم إبعادهم عن ملكوت الله لأنّهم لم يُلبسوا العريان ولم يُطعموا الجائع. إنّ الأمر يشبه حياتنا البشريّة. فالطفل عندما يكون في أحشاءِ أمّه لا يمكنه أن يفعل شيئًا لكنّه يحتاج لمحبّة والديه، لكن وبعد أن يولد ينبغي عليه أن يبدأ باستعمال رئتيه ليتنفّس بمعنى آخر ينبغي عليه أن يبدأ بالاجتهاد الشخصيّ ليحافظ على الحياة التي مُنحت له، وبهذا السّياق يمكننا أن نفهم قول القدّيس يعقوب "الإِيمانُ بِلا أَعمالٍ مَيْت".
نجد في العهد الجديد أسلوبين للتّعبير في إطار الحديث عن القداسة "أنتم قدّيسون" و"كونوا قدّيسين" وبالتالي نجد الإشارة إلى أنّ المسيحيّين هم مُقدَّسون ومُقدِّسون، وفي هذا السّياق يسلّط نصّ الدستور "نور الأمم" الضوء بوضوح على هذين الجانبين من القداسة والقائمين على الإيمان والأعمال: "إنَّ الذين يتبعون المسيح وقد دعاهم الله، لا بحسب أعمالهم ولكن بحسب تدبير نعمته، والذين تبرَّروا بيسوع ربّنا، أصبحوا حقاً بمعموديةِ الإيمان أبناء الله وشركاءَ الطبيعة الإلهيّة وبالتالي قدّيسين حقاً.
إذاً عليهم أن يُحافظوا في حياتهم، بنعمةِ الله، على هذه القداسة التي نالوها ويُتمِّموها" (نور الأمم، عدد 40). واليوم نوافق جميعنا على أنّه ينبغي الحفاظ على هذين الأمرين مُتّحدين، لأنّ يسوع هو أوّلاً عطيّة ننالها بالإيمان ولكنّه أيضًا مثال نتشبّه به في الحياة.
هذا هو المثال الجديد للقداسة في العهد الجديد. لكن يبقى دافع الدّعوة إلى القداسة ثابتًا: "إنَّ الَّذي دَعاكم هَو قُدُّوَس، فكذلِكَ كُونوا أَنتم قِدِّيسينَ في سيرَتِكم كُلِّها"، لكن القداسة ليست أمرًا فُرِض علينا وإنّما هي عطيّة؛ هي واجب علينا نعم ولكنّها تأتي من كرامتنا كأبناء لله، وتنبع من هويّتنا العميقة بأنّنا "على صورة الله ومثاله". فإن كنّا "مدعوّين لنكون قدّيسين" وإذا "كانت دعوتنا القداسة" فسنعيش عندها حقيقتنا كأشخاص بقدر ما نحقـّق القداسة في حياتنا، وإلّا فسنكون مجرّد فاشلين. وفي هذا السّياق تأتي كلمات الأمّ تريزا لتُشجّعنا: "القداسة ليست امتيازًا بل هي ضرورة".
يشبه توقنا إلى القداسة مسيرة الشّعب المختار في الصّحراء. إنّها مسيرة مطبوعة بوقفات مستمرّة وانطلاقات مُتجدّدة. فالشّعب كان يتوقّف وينصب خيامه أحيانًا بسبب التعب وأحيانًا بسبب الماء والأكل، لكن سُرعان ما كان يعود صوت الرّبّ القائل لموسى: "انطلق فاصعد من ههنا، أنت والشّعب، إلى الأرض التي أقسمت لإبراهيم واسحق ويعقوب قائلاً: لنسلك أُعطيها".
وفي حياة الكنيسة غالبًا ما نسمع هذه الدّعوة للإنطلاق في المسيرة مجدّدًا لاسيّما في بداية السنة الليتورجيّة أو في مناسبات خاصّة كيوبيل الرّحمة الذي فتحه الأب الأقدس منذ أيام. لقد حان الوقت لكلِّ فرد منّا لقوض الخيام والإنطلاق مُجددًا في المسيرة نحو القداسة.
يدعونا القدّيس أغوسطينوس لنوقظ في أنفسنا الرّغبة في القداسة: "Tota vita christiani boni, sanctum desiderium est" أي "إنّ حياة المسيحيّ الصّالح تقوم على رغبة مقدّسة وهي الرّغبة بالقداسة" ويسوع يقول لنا: "طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون" (متى 5، 6)، والبرّ بحسب الكتاب المقدّس هو القداسة، لذلك ليسأل كلّ منّا نفسه في زمن المجيء هذا: "هل أنا جائع وعطشان للقداسة أم أنّني أرضى بما هو دون ذلك؟"
إذاعة الفاتيكان.