التأمل الثالث لزمن المجيء

متفرقات

التأمل الثالث لزمن المجيء


التأمل الثالث لزمن المجيء


ألقى واعظ القصر الرّسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمّله الثالث لزمن المجيء في كابلة أمّ الفادي في القصر الرّسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهلّه بالقول: 


يتمحور تأمّلنا الثالث حول الفصل السّابع من الدّستور العقائدي في الكنيسة "نور الأمم" والذي يحمل عنوان "الطوباويّة مريم أمّ الله في سرّ المسيح والكنيسة"، ويكتب المجمع في هذا الصدّد: "إنَّ العذراء الطوباويّة التي أُعِدَّتْ منذُ الأزل، في تصميم تجسُّد الكلمة كي تكون أمَّ الله، غَدَتْ على الأرض، بتدبيرِ العناية الإلهيّة، أُمًّا حبيبةً للمخلِّص الإلهيّ، وشريكةً سخيّة في عمله بصفةٍ فريدةٍ أبدًا، وأَمَةً للربّ وديعة. بالحبلِ بالمسيح، وبوضعها إيّاه في العالم، وبتغذيتها له، وبتقدمته في الهيكل إلى أبيه، وبتألمها مع ابنها الذي مات على الصّليب، ساهمت في عَمَل المخلص مساهمةً لا مثيل لها بخضوعها وإيمانها، برجائها ومحبَّتها الحارّة كي تعود الحياة الفائقة الطبيعة إلى النفوس. لهذا كانت لنا أُمًَّا في نطاقِ نظامِ النِعمة" (عدد 61).


بالإضافة إلى صفة أمِّ الله وأمِّ المؤمنين، يضيف المجمع شارحًا دور مريم كونها مثالًا  للكنيسة وصورة لها فيقول: "إنَّ الطوباويّة مريم لتتَّحدُ أيضًا إتّحادًا وثيقًا بالكنيسة وذلك بنعمةِ الأمومة ودورها اللذين يوحدّانها بابنها المخلّص، وبفضل مهمّاتها الفريدة. وحسب تعليم القدّيس أمبروسيوس، إنَّ أمَّ الله هي صورة الكنيسة أعني في الإيمان، والمحبّة، والإتّحاد الكامل بالمسيح" (عدد 63).


 إنّ الحداثة الأكبر حول العذراء في المجمع تقوم على الإطار الذي وُضعَت فيه مريم العذراء، أي في الدّستور العقائديّ حول الكنيسة، والذي من خلاله حقّق المجمع تجديدًا كبيرًا في اللاهوت المريميّ نسبة إلى القرون الأخيرة. فمريم تُعتبر، كما يكتب القدّيس أغوسطينوس، العضو المميّز في الكنيسة: "مريم هي قدّيسة، مريم هي طوباويّة ولكنّها ليست أهمّ من الكنيسة؛ لماذا؟ لأنّ مريم هي جزء من الكنيسة، عضو مُقدّس ومتميّز عن الآخرين ولكنّها تبقى عضوًا في هذا الجسد".


إنّهما واقعان ينيران بعضهما البعض الآخر ، فالحديث عن الكنيسة يسلّط الضّوء على من هي مريم، والحديث عن مريم يسلّط الضّوء على ما هي الكنيسة أي جسد المسيح وامتداد لتجسّد الكلمة. كما يكتب القدّيس يوحنّا بولس الثاني في رسالته العامّة "أمّ الفادي": "اعتلان مريم في سرّ المسيح هو أيضًا، في رؤية المجمع، وسيلة لتفهّم أكثر عمقًا لسرّ الكنيسة" (عدد 5).


أمّا الحداثة الأخرى في اللاهوت المريميّ للمجمع فهي التّشديد على إيمان مريم، وهو الموضوع الذي تتمحور حوله أيضًا الرّسالة العامّة المريميّة "أمّ الفادي" وهنا أيضًا يمكننا أن نرى تأثير القدّيس أغوسطينوس الذي يكتب: "العذراء مريم وَلَدَت في الإيمان من حمِلَت به في الإيمان... فبعد أن كلّمها الملاك، هي الممتلئة إيمانًا، حملت المسيح في قلبها قبل أن تحمله في حشاها، وأجابت: "أنا أمة الربّ فليكن لي بحسب قولك!"


 أريد أن أسلّط الضّوء الآن على الجانب المسكونيّ لهذا اللّاهوت المريميّ في المجمع الفاتيكانيّ الثاني. لكي نفهم جيّدًا مبدأ وساطة مريم العذراء في عمل الخلاص ينبغي علينا أن ننطلق من وساطة الخلائق كوساطة ابراهيم والرّسل والأسرار والكنيسة وليس من وساطة المسيح الإلهيّة.


ولذلك فإن كان إبراهيم لِما فعله قد استحقّ في الكتاب المقدّس اسم "أب جميع المؤمنين"، يمكننا أن نفهم بشكلٍ أفضل لماذا لا تتردّد الكنيسة بتسمية مريم "أمّ جميع المؤمنين". فعندما نقارن بين إبراهيم ومريم يمكننا أن نفهم بشكلٍ أعمق مُحتوى هذه التّسمية ومعناها، وبالتالي يمكننا أن نجد نقطة انطلاق للحديث المسكونيّ حول مريم. يكتب كالفن في إحدى تفسيراته للنصّ الذي يقول فيه الله لإبراهيم: "ويتبارك بك جميع عشائر الأرض" (تك 12، 3) أن إبراهيم ليس فقط مثالاً وشفيعًا وإنّما أيضًا وسيط بركة لجميع الأجيال. وهذا الأمر يُساعدنا أيضًا لنفهم ما يقوله التّقليد عن مريم، انطلاقـًا من القدّيس إيريناوس، أي أنّها ليست مثال بركة وخلاص وحسب وإنّما وبفضل نعمة الله ومشيئته هي أيضًا سببًا للخلاص.


 إنّه لأمر مُشجّع أن نكتشف أنّ الذين بدؤوا الإصلاح قد اعترفوا أيضًا أن مريم هي أمّنا وأمّ الخلاص، ففي إحدى عظاته الميلاديّة يقول لوثر: "هذا هو عزاء الله وفيض صلاحه: أن يتغنّى الإنسان بخير ثمين كهذا وهو أن تكون مريم أمّه الحقيقيّة ويسوع أخاه والله أباه... فإن كنت تؤمن بهذا الأمر فأنت حقًّا في حشا العذراء مريم وأنت ابنها الحبيب".


لكن كيف وصلنا إلى هذا الموقف الحاليّ لإخوتنا البروتستانت إزاء مريم؟ لن أقوم بقراءة تاريخيّة ولكنّني سأسلط الضّوء على ما يبدو لي أنّه الدّرب للخروج من هذه الحالة إزاء العذراء مريم.


هذا الدّرب يمرّ عبر اعتراف صادق من قبلنا نحن الكاثوليك بأنّنا قد ساهمنا غالبًا في خلق هذا الموقف في إخوتنا البروتستانت إزاء مريم ومن خلال تعبّدنا المبالغ به أحيانًا والذي غالبًا ما يخرج عن الإطار البيبليّ الواضح والذي يضع هذا التعبّد في علاقة مع كلمة الله والرّوح القدس.


 لقد لحظ المجمع الفاتيكانيّ الثاني هذا الأمر ولذلك حثّ المؤمنين على "أن يُبعدوا في كلامهم وأعمالهم، كلَّ ما من شأنه أن يقودَ إلى الضلال، في تعليم الكنيسة الحقّ، إخوتنا المنشقّين أو أيّ شخص آخر" وذكّر المؤمنين أنّ الإكرامَ الحقَّ لا يقومُ أبداً بالعواطف العقيمة العابرة، ولا في سذاجةِ إيمانٍ فارغة، ولكنّه ينبع من إيمانٍ حقيقيّ يقودنا إلى أن نفقه الكرامةَ السّامية التي لأمِّ الله ويدفعنا إلى محبّةِ أمِّنا حُبّاً بنويّاً، ويحثّنا على الإقتداء بفضائلها" (نور الأمم، عدد 67).


تدفعنا جميع هذه الأمور لنعزّز في قلوبنا الرّجاء بأن نتمكّن يومًا، كاثوليك وبروتستانت، من أن نتّحد في إكرام مشترك لمريم قد يختلف في الشكل ولكنّه يتوافق في إعلانها أمّ الله وأمّ جميع المؤمنين.


 وإذ نترك الحديث المسكونيّ جانبًا سنحاول الآن أن نرى كيف يمكن لسنة الرّحمة أن تساعدنا في اكتشاف أمور جديدة حول أمّ الله. في صلاة "السّلام عليك أيتها الملكة" ندعو مريم "أمَّ الرحمة".


إنّ مريم هي أمّ الرّحمة وباب الرّحمة، فهي الباب الذي من خلاله دخلت رحمة الله، أي يسوع، إلى هذا العالم، وهي الآن الباب الذي من خلاله ندخل في رحمة الله ونمثل أمام عرش الرّحمة أي الثالوث. فهي ليست قناة ووسيطة رحمة الله وحسب وإنّما هي أوّل من وُجّهت إليها هذه الرّحمة؛ وهي ليست فقط تلك التي تنال لنا الرّحمة وإنّما هي أيضًا الأولى التي نالت هذه الرّحمة. فالرّحمة هي مرادف للنِعمة. والتسمية "ممتلئة نعمة" هي مرادف أيضًا لـ "ممتلئة رحمة"، فمريم بذاتها تعلن في نشيدها: "لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة" و"رَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه" فمريم تشعر بأنّها قد نالت هذه الرّحمة أيضًا وأنّها بامتياز الشّاهدة لها. فرحمة الله تحقّقت فيها ليس كمغفرة للخطايا وإنّما حفظتها بريئة من الخطيئة.


وكما تقول القدّيسة تريزيا الطفل يسوع فالله قد فعل معها ما قد يفعله طبيب جدير في مرحلة وباء معيّن، فهو يذهب من بيت إلى آخر لمُداواة المُصابين وعلاجهم ولكن إن وُجد شخص عزيز على قلبه فهو سيقوم بكلّ ما بوسعه ليحميه من العدوى وهكذا فعل الله مع مريم وحفظها من الخطيئة الأصليّة من أجل استحقاقات آلام ابنه.


وبالحديث عن بشريّة يسوع يقول القدّيس أغوسطينوس أنّ النّعمة هي ما جعل كلمة الآب الأزليّ يتجسّد في بشريّة يسوع؛ وهذه الكلمات تسلّط الضّوء بشكلٍ فريد على شخص مريم العذراء وعلى النّعمة التي نالتها أي على الرّحمة.


 لقد كان القدّيس بولس يعتبر ذاته على الدّوام ثمرة رحمة الله ويقول عن نفسه إنّه: "رَجُلٍ جَعَلَته رَحمَةُ اللهِ جَديرًا بِالثِّقَة" (1 كور 7، 25)، ولا يكتفي بالحديث عن عقيدة الرّحمة وإنّما يصبح الشّاهد الحيّ لها: "أَنا الَّذي كانَ في ما مَضى مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا، ولكِنِّي نِلْتُ الرَّحمَة" (1 تيم 1، 12). يعلّمنا القدّيس بولس ومريم العذراء أنّ أفضل طريقة لإعلان الرّحمة هي بالشّهادة لرحمة الله التي نلناها، وأن نشعر بأنّنا نحن أيضًا ثمرة رحمة الله بيسوع المسيح وأنّنا نحيا من خلالها.


وختم واعظ القصر الرسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثالث لزمن المجيء بالقول لنرنّم مع صاحب المزمور: "بمراحم الرّب أُرنّم إلى الأبد". إنّ مريم التي تعظّم الله وتشكره على رحمته في نشيدها تدعونا لنتشبّه بها خلال سنة الرّحمة هذه وتحثّنا لنردّد صدى صوتها يوميًّا في الكنيسة كما يردّد الجوق الأغنية بعد المغنّي المنفرد: "تعظّم نفسي الرّبّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي..."       



إذاعة الفاتيكان.