إلتقى قداسة البابا فرنسيس عند السّاعة الرّابعة من بعد ظهر يوم الأحد في استاد "لاماكارينا" الكهنة والرُّهبان والرَّاهبات والإكليريكيِّين وعائلاتهم وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها
إنّ مَثل الكرمة الحقيقيّة الذي سمعناه من إنجيل يوحنا (15/ 1 -17) يأتي في إطار عشاء يسوع الأخير. في ذلك الجوّ من الحميميّة والتوتر المفعم بالمحبّة، غسل الرَّبُّ أرجُلَ تلاميذه وأراد أن يخلَِّد ذكره في الخبز والخمر فتحدّث من عمق قلبه مع الذين أحبّهم أكثر من سواهم.
في تلك الأمسية "الإفخارستيّة" الأولى، وفي أوّل مغيب شمس بعد تصرّف الخدمة، فتح يسوع قلبه وسلّمهم وصيّته. وكما في تلك العليّة كان الرّسل يجتمعون مع بعض النساء ومريم أمّ يسوع (أعمال ١، ١۳-١٤)؛ هكذا اجتمعنا نحن اليوم هنا لنصغي إليه ونصغي إلى بعضنا البعض.
إنَّ الأخت لايدي للقدّيس يوسف وماريا إيزابيل والأب خوان فيليبي قد قدّموا لنا شهاداتهم... ويمكن لكلِّ فرد منّا أيضًا نحن الحاضرين أن يروي قصّة دعوته. جميعنا نملك الخبرة المُشتَرَكة ليسوع الذي يأتي للقائنا ويسبقنا وبهذه الطريقة "قبض" على قلوبنا. كما نقرأ في وثيقة آباريسيدا: "معرفة يسوع هي الهديّة الأجمل التي يُمكن لأي شخص أن ينالها، واللقاء به هو أفضل ما يُمكن أن يحصل لنا في حياتنا وأن نجعله معروفًا بواسطة الكلمات والأعمال يشكّل فرحًا كبيرًا بالنسبة لنا" (عدد ۲۹).
كثيرون منكم أيّها الشباب، قد اكتشفتم يسوع الحيّ في جماعاتكم؛ جماعات ذات حماس رسوليّ مُعدٍ، تولِّد الحماس وتخلق الإعجاب. حيث هناك حياة وحماس ورغبة بحمل المسيح إلى الآخرين تولد دعوات حقيقيّة؛ إنّ حياة الجماعة الأخويّة والمندفعة هي التي تولِّد الرَّغبة بالتكرُّس بالكامل لله والبشارة (الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل، عدد ١۰۷).
إنّ الشباب بطبيعتهم مليئون بالطموحات، وبالرّغم من أنّنا نشهد أزمة في الإلتزام والعلاقات الجماعيّة؛ نجد العديد من الشّباب الذين يعملون معًا إزاء شرور العالم ويتكرّسون لمختلف أشكال الخدمة الناشطة والتطوّع. وعندما يقومون بذلك محبّة بيسوع فيما يشعرون أنّهم جزء من الجماعة، يصبحون "رسل إيمان" يفرحون بحمل يسوع إلى كلِّ درب وساحة وزاوية في العالم (المرجع نفسه، عدد ١۰۷). إنّ الكرمة التي يشير إليها يسوع، في الإنجيل الذي أعلنه، هي كرمة "شعب العهد". والأنبياء كإرميا وأشعيا وحزقيال يشيرون إليه ويشبّهونه إلى كرمة وينشد المزمور الـ٨٠: "من مصر اقتلعتَ غرسة... مهّدتَ لها فأصَّلت أصولها وملأت الأرض" (الآيات ٩- ١٠) تعبِّر أحيانًا عن فرح الله بكرمته وأحيانًا أخرى عن غضبه والخيبة أو النفور؛ فهو لا يكفُّ أبدًا عن الاهتمام به، ولا عن التألُّم بسبب ابتعاده أو عن الذهاب للقاء هذا الشّعب الذي، عندما ينفصل عنه ييبس ويحترق ويتدمّر.
كيف هي الأرض والغذاء والعضد حيث تنمو هذه الكرمة في كولومبيا؟ في أيّة أُطُر تولد دعوات التكرّس الخاصّة؟ بالتأكيد في بيئات مليئة بالتناقضات والأوضاع العلائقيّة المعقّدّة. يطيب لنا أن تكون علاقتنا بعالم وعائلات وروابط أكثر هدوءًا ولكنّنا داخل هذه الأزمة الثقافيّة وفي خضمِّها وإذ نأخذها بعين الاعتبار يستمرّ الله في دعوة الأشخاص.
إنّه لوهم أن نفكِّر أنّكم جميعًا قد سمعتم دعوة الرَّبِّ داخل عائلات تعضدها محبّة قويّة ومليئة بالقيم كالسَّخاء والالتزام والأمانة والصَّبر (الإرشاد الرسولي فرح الحب، عدد ٥). إنّ الله يريدها أن تكون جميعها هكذا. ولكن أن نحافظ على أرجلنا ثابتة يعني أن نعترف أنّ مسيرة الدّعوة الخاصّة بنا وبزوغ دعوة الله يجدانا أقرب إلى ما تعلنه كلمة الله التي تعرفها كولومبيا جيّدًا: "درب من المُعاناة والدّم... عنف قايين الأخويّ القاتل، والصّراعات المختلفة بين أبناء، وزوجات الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، والمآسي التي تلطخ بالدّم عائلة داود، وصولاً إلى العديد من المشاكل العائليّة التي تعجُّ بها قصّة طوبيا، أو الاعتراف المفعم بالمرارة لأيوب المتروك وحيدًا" (المرجع نفسه، عدد٢٠) هكذا كان الأمر منذ البدء: أظهر الله قربه واختياره؛ هو يغيّر مسار الأحداث إذ يدعو رجالاً ونساء في هشاشة التاريخ الشخصيّ والجماعيّ.
لا يجب علينا أن نخاف في هذه الأرض المعقدة لأنّ الله قد صنع أعجوبة إنبات عناقيد صالحة كالخبز الطيّب عند الفطور؛ وأتمنّى ألا تنقص الدّعوات في كلِّ جماعة أو عائلة في ميديلين!
وهذه الكرمة، - التي هي كرمة يسوع - تتميّز بأنّها حقيقيّة. لقد استعمل هذه الصِّفة في مناسبات أخرى في إنجيل يوحنّا: النّور الحقيقيّ والخبز الحقيقيّ النازل من السَّماء، والشَّهادة الحقيقيّة. إنّ الحقيقة ليست شيئًا نناله - كالخبز أو النّور - ولكنّها تنبع من الدّاخل. نحن شعب مختار من أجل الحقيقة وينبغي على دعوتنا أن تكون في الحقيقة. وبالتالي لا يمكنها أن تتحقـّق بالخداع والازدواج والخيارات الخسيسة إن كنا أغصانًا في هذه الكرمة وكانت دعوتنا مطعّمة بيسوع.
علينا أن نتنبّه جميعًا لكي يقوم كلّ غصن بما وُجد من أجله: أي أن يُثمر. ينبغي على الذين طُلب منهم مرافقة الدّعوات أن يحفِّزوا، منذ البداية، النيّة الصّالحة والرَّغبة الحقيقيّة للتشبّه بيسوع الرّاعي والصّديق والعريس. عندما لا تتغذى هذه المسيرات من هذه العصارة الحقيقيّة التي هي روح يسوع، نختبر عندها الجفاف ويكتشف الله بحزن تلك البراعم اليابسة.
إنّ دعوات التكرّس المميزة تموت عندما تريد أن تتغذّى من التبجيل أو عندما يحرّكها البحث عن الطمأنينة الشخصيّة والترقي الاجتماعيّ أو عندما يكون الدافع "للترقّي من فئة معيّنة" أو التعلّق بمصالح ماديّة تصل إلى حدِّ ارتكاب خطأ السَّعي إلى الرِّبح. وكما قلت في مناسبات أخرى إنّ الشّيطان يدخل من خلال المحفظة. وهذا الأمر لا يتعلّق في البدايات فقط بل ينبغي علينا أن نتنبّه جميعنا لأنّ الفساد في الرِّجال والنساء الذين في الكنيسة يبدأ بهذه الطريقة، شيئًا فشيئًا ومن ثمّ – كما يقول يسوع – يتجذّر في القلب ويبعد الله عن حياتنا. "لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متى ٦،۲٤)، لا يمكننا أن نستغلَّ حالتنا الرّهبانيّة وطيبة أُناسنا، لتتمَّ خدمتنا ونحصل على امتيازات ماديّة.
هناك حالات ومواقف وخيارات تُظهر علامات الجفاف والموت: لا يمكنها أن تستمرَّ بإبطاء سيل العصارة التي تغذّي وتعطي الحياة! لا يمكن لسمِّ الكذب والأمور الخفيّة ولاستغلال شعب الله والأشد ضعفًا ولاسيّما المسنّين والأطفال أن يجد له مكانًا في جماعتنا. لكنّ الله لا يقطع فقط؛ ويتابع المثل ويقول إن الله يقضّب الكرمة من النواقص. والوعد هو أنّنا سنثمر بوفرة كحبّة القمح، إن كنّا قادرين على تقديم ذواتنا وبذل حياتنا بحريّة.
لدينا في كولومبيا أمثلة على أنَّ هذا الواقع ممكن. لنفكّر في القدّيسة لورا مونتويا، راهبة مدهشة، ذخائرها حاضرة هنا معنا، ومن هذه المدينة بذلت نفسها في عمل إرساليٍّ كبير لصالح الشّعوب الأصليّة في البلاد كلّها. كم تعلّمنا هذه المرأة المكرّسة في التكرّس الصَّامت المعاش بنكران الذات وبدون أي مصلحة غير إظهار وجه الله الوالديّ! وهكذا أيضًا يمكننا أن نتذكّر الطوباوي ماريانو ليسوع أوسيه هويوس أحد أوّل تلاميذ إكليريكيّة ميديلين، وكهنة ورهبانًا كولومبيِّين آخرين قد بدأت دعاوى إعلان قداستهم، كالعديد غيرهم آلاف الكولومبيِّين المجهولي الهويّة، الذين في بساطة حياتهم اليوميّة عرفوا أن يبذلوا ذواتهم في سبيل الإنجيل، والذين تحافظون على ذكراهم ويشكّلون حافزًا لكم في تفانيكم. جميعهم يظهرون لنا أنّه من الممكن إتباع دعوة الرَّبّ بأمانة وأنّه من المُمكن أن نحمل ثمرًا كثيرًا.
والبُشرى السَّارة هي أنّه مستعد لأن يطهّرنا وبأنَّ مسيرتنا لم تنتهِ وإنّما كتلاميذ صالحين نحن لا نزال نسير. وكيف يقطع يسوع عوامل الموت المُتجذّرة في حياتنا والتي تشوّه دعوتنا؟ من خلال دعوتنا للثبات فيه؛ والثبات فيه لا يعني الإقامة معه فقط بل يشير إلى الحفاظ على علاقة حيويّة وجوهريّة وضروريّة؛ إنّه عيشٌ ونموٌّ في وحدة حميمة وخصبة مع يسوع، ينبوع الحياة الأبديّة. لا يُمكن للثبات في يسوع أن يكون موقفـًا خاملاً أو مجرّد استسلام بدون تبعات في الحياة اليوميّة والملموسة. إسمحوا لي أن أقدِّم لكم ثلاثة أساليب لتفعيل هذا الثبات:
ثبات في المسيح من خلال لمس بشريّة المسيح: بواسطة نظرة ومشاعر يسوع الذي لا يتأمّل في واقع كديّان وإنّما كسامريّ صالح؛ يرى قيم الشّعب الذي يسير معه وإنّما جراحه وخطاياه أيضًا؛ ويكتشف الألم الصّامت ويتأثّر أمام حاجات الأشخاص لاسيّما عندما يسيطر عليهم الظلم والفقر اللاإنسانيّ واللامبالاة أو العمل الخسيس للفساد والعنف.
من خلال تصرّفات يسوع وأقواله التي تعبِّر عن محبّة للقريبين وتبحث عن البعيدين؛ حنان وحزم في إدانة الخطيئة وإعلان الإنجيل، فرح وسخاء في التفاني والخدمة لاسيّما تجاه الصِّغار، رافضين بقوّة تجربة اعتبار أنَّ كلّ شيء قد انتهى أو أن نستسلم للواقع أو نكتفي بإدارة الأحداث الصعبة.
ثبات من خلال تأمُّل ألوهيّته: من خلال خلق ودعم التقدير للدراسة التي تنمّي معرفة المسيح، لأنّه وكما يذكّر القدّيس أغسطينوس لا يمكننا أن نحبّ من لا نعرفه (راجع الثالوث الأقدس، الكتاب العاشر، الفصل الأول، عدد ۳). وإذ نعطي، من أجل هذه المعرفة، الامتياز للقاء مع الكتاب المقدّس لاسيّما الإنجيل حيث يكلّمنا المسيح ويُظهر لنا محبّته غير المشروطة للآب ويعدينا الفرح النابع من الطاعة لإرادته ومن خدمة الإخوة. إنّ الذي لا يعرف الكتاب المقدّس لا يعرف يسوع والذي لا يحبّ الكتاب المقدّس لا يحبّ يسوع (إيرونيموس، مقدّمة لشرح حول السفر النبي أشعيا، علم الآباء اللاتين ۲٤، ١۷). ونعطي وقتًا لقراءة مصليّة لكلمة الله فنصغي من خلالها إلى ما يريده الله لنا ولشعبنا. لتساعدنا دراستنا بأكملها لنكون قادرين على رؤية الواقع بعينيّ الله وألا تكون دراسةً لا تمُتُّ بِصِلةٍ إلى ما يعيشه شعبنا وألا تتبع موجات الموضة والإيديولوجيّات؛ فلا تعيش في الحنين ولا تريد أن تحبس السرّ ولا تسعى للإجابة على أسئلة لا يطرحها أحد لتترك في الفراغ الوجوديّ أولئك الذين يسائلوننا من خلال إحداثيّات عالمهم وثقافاتهم.
الثبات والتأمّل بألوهيّته جاعلين من الصَّلاة جزءًا أساسيًّا لحياتنا وخدمتنا الرَّسوليّة. إنَّ الصَّلاة تحرّرنا من ثقل روح العالم وتعلّمنا أن نعيش بفرح ونقوم بخياراتنا بعيدًا عن الأمور السطحيّة وفي ممارسة حريّة حقيقيّة. تسحبنا من تجربة التركيز على أنفسنا والاختباء في خبرة دينيّة فارغة وتقودنا لنضع أنفسنا بوداعة بين يديّ الله لنتمِّم مشيئته ونجيب على مشروعه للخلاص، فنعبده في الصَّلاة، ونتعلّّم العبادة في الصَّمت. نحن رجال ونساء مصالَحون ليصالِحوا. إنّ الدّعوة لا تعطينا شهادة بالسُّلوك الحسن وعدم ارتكاب الأخطاء، وبالتالي لا تُغطّينا هالة من القداسة. جميعنا خطأة ونحتاج لمغفرة الله ورحمته يوميًّا لنقف مجدّدًا؛ هو ينزع ما ليس صالحًا وما لم نحسن فعله، ويرميه خارج الكرمة ويُحرقه. ينقيّنا لكي نتمكّن من أن نُثمِر. هكذا هي أمانة الله الرَّحيمة مع شعبه الذي نشكّل جزءًا منه. هو لا يتركنا أبدًا على حافة الطريق. الله يقوم بكلِّ ما بوسعه ليمنع الخطيئة من أن تتغلّب علينا وتغلق أبواب حياتنا على مستقبل رجاء وفرح.
وختامًا، ينبغي علينا أن نثبت في المسيح لنعيش في الفرح: إن ثبتنا فيه، سيكون فرحه فينا. لن نكون تلاميذًا تعساء ورسلاً يائسين. بل على العكس سنعكس ونحمل الفرح الحقيقيّ ذلك الفرح الكامل الذي لا يمكن لأحدٍ أن ينتزعه منّا، وسننشر رجاء الحياة الجديدة الذي منحنا إيّاه المسيح.
إنّ دعوة الله ليست حملاً ثقيلاً ينتزع منّا الفرح. الله لا يريدنا غارقين في الحزن والتّعب الناتجَينِ عن النشاط المعاش بأسلوب خاطئ بدون روحانيّة تجعل حياتنا سعيدة وحتى أتعابنا. على فرحنا المعدي أن يكون الشّهادة الأولى لقرب الله ومحبّته. نكون موزّعين حقيقيِّين لنعمة الله عندما نسمح بأن يظهر فرح اللقاء به. في سفر التكوين وبعد الطوفان، زرع نوح كرمة كعلامة للبداية الجديدة؛ وفي نهاية سفر الخروج، عاد الذين كان موسى قد أرسلهم ليتفحّصوا أرض الميعاد حاملين عنقود عنب كعلامة للأرض التي تدُرُّ لبنًا وعسلاً.
إنّ الله يتنبّه لنا ولجماعاتنا وعائلاتنا؛ الرَّبُّ قد وجّه نظره إلى كولومبيا وأنتم علامة لهذه المحبّة التي خصَّكم بها الله. يتوجّب علينا أن نقدّم محبّتنا بكاملها وخدمتنا متّحدين بيسوع المسيح، كرمتنا، وأن نكون وعد بداية جديدة لكولومبيا التي تترك خلفها طوفان النزاعات والعنف وتريد أن تحمل العديد من ثمار العدالة والسَّلام واللقاء والتضامن. ليبارككم الله وليبارك الحياة المكرّسة في كولومبيا؛ ولا تنسوا أن تصلّوا من أجلي.
إذاعة الفاتيكان.