البابا فرنسيس يستقبل مرسلي الرحمة

متفرقات

البابا فرنسيس يستقبل مرسلي الرحمة

 

 

 

 

 

البابا فرنسيس يستقبل مرسلي الرحمة

 

 

 

 

 

استقبل قداسة البابا فرنسيس صباح يوم الثلاثاء في القصر الرسولي بالفاتيكان مرسلي الرحمة وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وقال:

 

 

إنها لفرحة كبيرة أن ألتقي بكم بعد خبرة يوبيل الرحمة الجميلة. أرغب في أن أتقاسم معكم بعض التأملات لأعطي دعمًا أكبر للمسؤوليّة التي وضعتها بين أيديكم ولكي تعبّروا بشكل أفضل عن خدمة الرحمة التي دعيتم لعيشها بشكل مميّز بحسب مشيئة الآب التي أظهرها لنا يسوع.

 

 يقترح علينا التأمّل الأوّل نص النبي أشعيا الذي نقرأ فيه: "في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص اعنتك... الرب قد عزى شعبه وعلى بائسيه يترحم، وقالت صهيون قد تركني الرب وسيدي نسيني، هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها حتى هؤلاء ينسين وانا لا انساك" (أشعيا 49، 8. 13- 15). إنّه نص مطبوع بالرحمة. المحبّة والتعزية والقرب ووعد الحب الأبدي.... هذه كلّها تعابير تُعبِّر عن غنى الرحمة الإلهيّة بدون أن تستنفدها بجانب واحد.

 

 في رسالته الثانية إلى أهل كورنتس يستحدث القديس بولس نص أشعيا ويبدو أنّه يريد أن يُطبِّقه علينا فيكتب: "ولمَّا كُنَّا نَعمَلُ معَ الله، فإِنَّنا نُناشِدُكم أَلاَّ تَنالوا نِعمَةَ اللهِ لِغَيرِ فائِدَة. فإِنَّه يَقول: "في وَقتِ القَبولِ استَجَبتُكَ، وفي يَومِ الخَلاصِ أَغَثتُكَ". فها هُوَذا الآنَ وَقتُ القَبولِ الحَسَن، وها هُوَذا الآنَ يَومُ الخَلاص" (6، 1- 2). وقبل هذه الآيات كان القديس بولس قد عبّر عن الفكرة عينها إذ كتب: "فنَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المسيح وكأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِأَلسِنَتِنا. فنَسأَلُكُم بِاسمِ المسيح أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم" (5، 20). إنَّ الرسالة التي نحملها باسم يسوع هي أن نتصالح مع الله؛ رسالتنا هي نداء لنبحث عن مغفرة الآب وننالها. كما يمكننا أن نرى الله يحتاج لأناس يحملون في العالم مغفرته ورحمته. إنّها الرسالة عينها التي سلّمها الرب القائم من الموت لتلاميذه غداة فصحه: "فقالَ لَهم يسوع ثانِيَةً: "السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً". قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: "خُذوا الرُّوحَ القُدُس. مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم" (يو 20، 21- 23). هذه المسؤوليّة الموضوعة بين يدينا تتطلّب منا أسلوب حياة يتطابق مع الرسالة التي نلناها.

 

تعود إلى ذهني الكلمات التي كتبها بولس في نهاية حياته إلى تيموتاوس معاونه الأمين الذي سيتركه خلفًا له في جماعة أفسس، إذ يشكر الرب يسوع لأنّه دعاه للخدمة يعترف بأنّه كان "مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا" ويضيف "ولكِنِّي نِلْتُ الرَّحمَة". لقد فاضت فيه نعمة الرب ولذلك يكتب: "إِنَّه لَقَولُ صِدْقٍ جَديرٌ بِالتَّصْديقِ على الإِطْلاق، وهو أَنَّ المسيحَ يَسوعَ جاءَ إِلى العالَم لِيُخَلِّصَ الخاطِئِين، وأَنا أَوَّلُهم فإِنِّي ما نِلْتُ الرّحمَةَ إِلاَّ لِيُظْهِرَ المسيحُ يسوعُ طُولَ أَناتِه فِيَّ أَوَّلاً".

 

حتى في نهاية حياته لا يخفي الرسول ماضيه بل يفضّل أن يسلِّط الضوء على الخبرة التي طبعت حياته، ويدلُّ تيموتاوس على الدرب التي ينبغي اتباعها: الاعتراف برحمة الله أولاً في حياته الشخصيّة؛ إذ يجب أن ننطلق على الدوام من هذه النقطة الثابتة: الله قد عاملني برحمة، وهذا هو المفتاح لنصبح معاوني الله. إنَّ رسول الرحمة يجد انعكاسًا لنفسه في خبرة بولس الرسول: الله قد اختارني؛ الله يثق بي؛ الله قد وضع ثقته فيَّ ودعاني، بالرغم من أنني خاطئ، لأكون معاونًا له لكي أجعل رحمته حقيقيّة وفعّالة وملموسة.

 

 لكن القديس بولس يضيف إلى كلمات النبي أشعيا شيئًا مهمًّا؛ على معاوني الله وموزِّعي رحمته أن يتنبّهوا لكي لا يُبطلوا نعمة الله ويكتب: "إِنَّنا نُناشِدُكم أَلاَّ تَنالوا نِعمَةَ اللهِ لِغَيرِ فائِدَة". هذا هو التحذير الأول الذي يعطى لنا: أن نعترف بعمل النعمة وأولويّتها في حياتنا وحياة الأشخاص، لأنَّ المصالحة ليست، كما نعتقد غالبًا، مبادرتنا الخاصة أو ثمرة التزامنا، وإنما المبادرة الأولى هي للرب لأنّه هو الذي يسبقنا في المحبّة.

 

فعندما يقترب منا تائب ما من المُهمِّ والمعزّي أن نعترف أننا أمام أول ثمرة للقاء مع محبة الله الذي بنعمته فتح قلب التائب وجعله مُستعدًّا للارتداد. وبالتالي فمهمّتنا – بحسب هذا المقطع من الرسالة – تكمن في عدم إبطال عمل نعمة الله بل أن نعضدها لكي تبلغ إلى تمامها. أحيانًا للأسف قد يُبعد الكاهنُ التائبَ بتصرفاته بدلاً من أن يُقرِّبه ولكنَّ نعمة الله لا تتغذّى بهذا الشكل. إن الاعتراف بتوبة الخاطئ يوازي قبوله بأذرع مشرَّعة تشبُّهًا بالأب الذي يستقبل ابنه العائد إلى البيت كما في المثل، ويعني أيضًا ألا نسمح له بأن ينهي الكلمات التي كان قد أعدّها ليعتذر لأنَّ المعرِّف قد فهم كلَّ شيء بفضل خبرته بأنّه هو خاطئ أيضًا؛ وبالتالي يجب عليه ألا يجعل من اعترف بخطيئته ويعرف انه أخطأ يشعر بالخجل والعار، إذ لا ضرورة لأن نُحقِّق حيث قد عملت نعمة الآب وليس مسموح لنا بأن ننتهك الفسحة المقدّسة لشخص ما في علاقته مع الله.

 

 هنا تأخذ عبارة النبي أشعيا معناها الكامل: "في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص اعنتك..." إن الرب يجيب دائمًا على الذين يصرخون إليه بقلب صادق والذين يشعرون بأنّهم متروكون ووحيدون يمكنهم أن يختبروا أن الله يذهب للقائهم، كما يخبرنا مثل الابن الضال أنّه وفيما "كانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً". يساعدنا نص النبي أشعيا على القيام بخطوة أخرى في سرِّ المصالحة حيث يقول: " لأن الذي يرحمهم يهديهم وإلى ينابيع المياه يوردهم". إنَّ الرحمة التي تتطلّب الإصغاء تسمح بعدها بأن تقود خطى الخاطئ الذي نال المصالحة؛ فالله يحرّر من الخوف واليأس والخجل والعنف والمغفرة هي فعلاً أحد أشكال التحرر لاستعادة الفرح ومعنى الحياة.

 

 هناك تعليم بليغ للقديس اغناطيوس دي لويولا حول هذا الموضوع لأنّه يتحدّث عن القدرة في جعل الآخر يشعر بتعزية الله ويكتب: "إنَّ التعزية الداخلية تطرد كلِّ قلق وتجذب محبّة الرب بشكل كامل. هذه التعزية تنير البعض وتجعل البعض الآخر يكتشف العديد من الأسرار، وفي النهاية تتحوّل معها كل الآلام إلى فرح والتعب إلى راحة. إنَّ الذي يسير بهذا الحماس وهذا الدفع وهذه التعزية الداخليّة يصبح بالنسبة له كل حمل ثقيل خفيفًا، وكل ألم وندامة عذبًا. هذه التعزية تُظهر لنا الدرب الذي ينبغي اتباعها وتلك التي يجب الابتعاد عنها. نحن لا نملك هذه التعزية على الدوام ولكنّها تأتي في أوقات محدّدة بحسب مشيئة الله؛ وهذا كلّه لصالحنا".

 

بالعودة إلى كلمات النبيّ أشعيا، نجد فيها أيضًا مشاعر أورشليم التي تشعر بأنّها متروكة ومنسيّة من الله: "وقالت صهيون قد تركني الرّب وسيدي نسيني هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها حتى هؤلاء ينسين وأنا لا انساك". لكنّنا نقرأ في أسفار الأنبياء أنّ الشعب هو الذي يترك الرّب، ويكتب النبّي إرميا بوضوح حول هذا الأمر: "إن شعبي قد عمل شرَّين تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء".

 

فالخطيئة إذًا هي ترك الله والتحوّل عنه لنفكِّر فقط بأنفسنا، ونعرف جيّدًا أن هذه هي الخبرة اليوميّة التي نعيشها وبالرغم من ذلك هناك أوقات نشعر فيها فعلاً بصمت الله وتركه لنا. ما أتعس خبرة الترك هذه! نجد فيها درجات مختلفة وصولاً إلى الابتعاد النهائي وإلى الموت. إنَّ الشعور بأنّنا متروكون يحملنا إلى فقدان الأمل والحزن واليأس، ومع ذلك فإن كلّ خبرة ترك، بالرغم من التناقض، تندرج داخل خبرة الحبّ. عندما يحبّ المرء ويختبر الترك تصبح المحنة مأساويّة ويأخذ الألم أشكال عنف وحشيّة. وبالتالي فإن لم يندرج في الحبّ يصبح الترك بلا معنى ومأساويًّا لأنّه لا يجد الرَّجاء.

 

 إنّ صرخة يسوع على الصَّليب: "إِلهي إِلهي، لِمَاذا تَركتَني" تُعطي صوتًا لغور الترك؛ لكنَّ الآب لا يجيبه ويبدو أن صدى كلمات المصلوب يتردد في الفراغ لأنَّ صمت الآب هذا هو الثمن الذي يجب أن يُدفع لكي لا يشعر أحد بعد الآن أنّه متروك من الله؛ لأنّ الله الذي أحبَّ العالم لدرجة أنّه بذل ابنه الوحيد وتركه على الصليب لا يمكنه أن يترك أحدًا بعد الآن ومحبّته ستكون هناك على الدوام قريبة وأمينة وأكبر من كلِّ ترك.

 

وبالتالي بعد أنّ أكّد أشعيا أنَّ الله لا ينسى شعبه يختتم مؤكِّدًا: "هوذا على كفي نقشتك". إنّه أمر لا يُصدَّق الله قد نقش اسمي على كفِّه، إنه كختم يعطيني اليقين ويعدني من خلاله أنّه لن يبتعد عني أبدًا. ولا ننسينَّ أبدًا أنه فيما كان النبي يكتب كانت أورشليم مدمَّرة فعلاً: لم يعد الهيكل موجودًا وكان الشعب قد أصبح في المنفى. ومع ذلك يقول الرَّب "أسوارك أمامي دائما".

 

هذه الصورة تصلح لنا نحن أيضًا: إذ بينما تُدمَّر الحياة تحت وهم الخطيئة يحافظ الله على خلاصه حيًّا ويأتي للقائنا بمساعدته. على يده الأبويّة أجد حياتي مُجدّدة ومنطلقة نحو المستقبل ومُفعمة بالحبّ الذي وحده بإمكانه أن يحقِّقه. هذا هو اليقين النموذجيّ للحبّ الذي دُعينا لنعضده في الذين يقتربون من كرسي الاعتراف لنعطيهم القوّة ليؤمنوا ويرجوا؛ والقدرة لكي يبدؤوا من جديد بالرغم من كلِّ شيء لأنَّ الله يمسكنا في كلِّ مرّة بيدنا ويدفعنا للنظر إلى الأمام؛ والرّحمة تمسكنا وتزرع فينا اليقين بأنَّ حبّ الله لنا يتغلّب على جميع أشكال الوحدة والترك.

 

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.