بعد الزيارة إلى النصب التذكاريّ للقدِّيسة الأمّ تريزا دي كالكوتا ومباركة الحجر الأوّل للمزار الذي سيكرّس لها، توجّه قداسة البابا فرنسيس إلى ساحة مقدونيا في سكوبييه حيث ترأّس القدّاس الإلهيّ وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة استهلّها بالقول قال لنا الرَّبّ: "مَن يُقبِل إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِن بي فلَن يَعطَشَ أبَداً"(يو6 / 36). في الإنجيل يجتمع حول يسوع حشد كان لا يزال يحمل في عينيه ذكرى تكثير الخبز. إحدى تلك اللحظات التي بقيت مطبوعة في عيون وقلوب جماعة التلاميذ الأولى كانت لحظة عيد... عيد اكتشاف فيض الله وعنايته تجاه أبنائه الذين أصبحوا إخوة من خلال مقاسمة الخبز ومشاركته.
إنّ الربَّ قد جاء ليعطي الحياة للعالم ويقوم بذلك بأسلوب يتحدّى من خلاله ضيق حساباتنا ووضاعة انتظاراتنا وسطحيّة تفكيرنا؛ هو يشكّك في نظرتنا وقناعاتنا ويدعونا لننتقل إلى أفق جديد يفسح المجال لأسلوب مختلف لبناء الواقع. إنّه الخبز الحيّ النازل من السّماء، "مَن يُقبِل إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِن بي فلَن يَعطَشَ أبَداً".
لقد اعتدنا على أكل الخبز القاسي للمعلومات الخاطئة وانتهى بنا الأمر سجناء لتشويه السمعة والتصنيف والعار؛ لقد وثقنا أنَّ التطابق سيشبع عطشنا وانتهى بنا الأمر بالشرب من اللامبالاة وعدم الاكتراث. لقد بحثنا عن النتائج السريعة والأكيدة ووجدنا أنفسنا يُثقلنا نفاذ الصبر والخوف. وسجناء للافتراضيّة فقدنا طعم الواقع ونكهته.
لنقل ذلك بقوّة وبدون خوف: نحن جائعون يا ربّ... نحن جائعون يا رب لخبز كلمتك القادرة على فتح انغلاقنا وعزلتنا؛ نحن جائعون يا ربّ لأخوّة لا تملأ فيها اللامبالاة وتشويه السمعة والعار موائدنا ولا تأخذ المكان الأوّل في بيوتنا. نحن جائعون يا ربّ للقاءات تكون فيها كلمتك قادرة على رفع الرَّجاء وإيقاظ الحنان وتوعية القلب فتفتح دروب تحوّل وارتداد. نحن جائعون يا ربّ لنختبر، كذلك الجمع، تكثير رحمتك القادرة على كسر النماذج ومقاسمة شفقة الآب تجاه كلِّ شخص ولاسيّما الذين لا يعتني بهم أحد وهم منسيون ومحتقرون. لنقل ذلك بقوّة وبدون خوف نحن جائعون للخبز يا ربّ: خبز كلمتك وخبز الأخوّة.
بعد بضعة لحظات، سننطلق لنذهب إلى مائدة المذبح لكي نغتذي من خبز الحياة مُتّبعين وصيّة الربّ: "مَن يُقبِل إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِن بي فلَن يَعطَشَ أبَداً". إنّه الأمر الوحيد الذي يطلبه الربّ منّا: "تعالوا". يدعونا لننطلق ونخرج؛ ويحثُّنا على السير نحوه ليجعلنا شركاء في حياته ورسالته. في كلِّ إفخارستيا يُكسر فيها الربّ ويُوزَّع ويدعونا نحن أيضًا لكي نكسر أنفسنا ونوزِّعها معه ولنشارك في تلك المعجزة المُتكاثرة التي تريد أن تبلغ وتلمس جميع زوايا هذه المدينة وهذه البلاد وهذه الأرض ببعض الحنان والشفقة.
جوع للخبز وجوع للأخوّة وجوع لله. كم كانت الأمّ تريزا تعرف جيّدًا هذه الأمور كلّها، وأرادت أن تؤسِّس حياتها على قاعدتين: يسوع المتجسّد في الإفخارستيا ويسوع المتجسّد في الفقراء! محبّة ننالها ومحبّة نمنحها. قاعدتان لا تنفصلان قد طبعتا مسيرتها وجعلتاها تنطلق راغبة هي أيضًا بإشباع جوعها وإرواء عطشها. لقد ذهبت إلى الربّ وفي الفعل عينه ذهبت إلى الأخ المُحتَقَر وغير المحبوب والوحيد والمنسي؛ لقد ذهبت إلى الأخ ووجدت وجه الربّ... لأنّها كانت تعرف أنَّ محبّة الله تتّحد بمحبّة القريب: في الأصغر نلتقي بيسوع، وفي يسوع نلتقي بالله، وهذه المحبّة كانت الشيء الوحيد الذي يشبع جوعها.
أيّها الإخوة، إنَّ الربّ القائم من الموت لا زال اليوم يسير في وسطنا حيث نعيش حياتنا اليوميّة؛ يعرف جوعنا ويقول لنا: "مَن يُقبِل إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِن بي فلَن يَعطَشَ أبَداً". لنشجّع بعضنا البعض على الوقوف ولاختبار وفرة محبّة الله ولنسمح له بأن يشبع جوعنا ويروي عطشنا في سرِّ المذبح وسرّ الأخ.
إذاعة الفاتيكان.