احتفالا بعيد الدنح ترأس قداسة البابا فرنسيس القداس الإلهي عند الساعة العاشرة من صباح يوم السبت في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان. وتخللت الذبيحة الإلهية عظة للأب الأقدس قال فيها:
ثلاثة تصرُّفات توجّه مسيرتنا للقاء الرب الذي يظهر اليوم كنور وخلاص لجميع الأُمم. لقد رأى المجوس النجم وساروا وقدّموا الهدايا.
رؤية النجم، هي نقطة الإنطلاق، ولكن يمكننا أن نسأل أنفسنا لماذا رأى المجوس النجم وحدهم؟ ربما لأنَّ قليلون فقط رفعوا نظرهم إلى السماء. غالبًا في الواقع ما نكتفي بالنظر إلى الأرض: تكفينا الصحة وبعض النقود والتسلية. وأتساءل: هل ما زلنا نعرف كيف نرفع نظرنا إلى السماء؟ هل نعرف أن نحلم ونرغب في الله وننتظر حداثته أم أننا نسمح للحياة أن تحملنا كغصن يابس يحمله الهواء؟ إنَّ المجوس لم يرضوا بمجرَّد العيش بل فهموا أنّهم كي يعيشوا حقًا يحتاجون لهدف أسمى ولذلك عليهم أن يحافظوا على نظرهم موجّهًا نحو العلى.
ولكن يمكننا أن نسأل أنفسنا أيضًا لماذا من بين الذين يرفعون نظرهم إلى السماء، كثيرون لم يتبعوا النجم، نجمه؟ ربما لأنه لم يكن نجم مبهرجًا ولم يكن يسطع أكثر من غيره. كان نجم – يقول الإنجيل – أبصره المجوس، نجم يسوع الذي لا يُعمي ولا يُذهِل بل يدعو بلطافة. يمكننا أن نسأل أنفسنا أي نجم نختار في حياتنا. هناك نجوم برّاقة تولِّد أحاسيس قويّة ولكنّها لا توجِّه المسيرة.
هكذا هو الأمر بالنسبة للنجاح والمال والمراكز والملذّات التي نبحث عنها كهدف للحياة. إنها كالنيازك: تلمع لفترة صغيرة ولكنها سرعان ما تصطدم ويختفي بريقها. إنها نيازك تُضلِّل بدل من أن توجِّه. إنَّ نجم الرب ليس برّاقًا على الدوام ولكنه حاضر دائمًا: يمسكك بيدك في حياتك ويرافقك. لا يعدك بمكافآت ماديّة بل يؤمِّن لك السلام ويعطيك كما أعطى المجوس "فرحًا عظيمًا جدًّا"، لكنّه يطلب منك أن تسير.
السير هو عمل المجوس الثاني، وهو أساسيٌّ لإيجاد يسوع. في الواقع يطلب النجم قرار السير وتعب المسيرة اليومي، يطلب منا أن نتحرَّر من أثقال غير نافعة وعظمة مُرهقة تُعيقنا، ونقبل المفاجآت التي لا تظهر في مُخطَّط الحياة الهامدة. إنَّ يسوع يسمح لمن يبحث عنه أن يجده ولكن لكي نجده علينا أن ننطلق ونخرج، ولذلك لا يجب أن ننتظر بل أن نخاطر، لا يجب أن نراوح مكاننا بل أن نسير قدمًا.
يسوع مُتطلِّب: يقترح على من يبحث عنه أن يترك كنبة الرفاهيّة الدنيويّة ودفء مدافئنا المُطمئن. إتِّباع يسوع ليس بروتوكولاً ينبغي احترامه بل خروج يُعاش. الله الذي حرّر شعبه من خلال مسيرة الخروج ودعا شعوبًا جديدة لإتباع نجمه يعطي الحريّة ويمنح الفرح على الدوام ولكن خلال المسيرة. بمعنى آخر لكي نجد يسوع علينا أن نترك الخوف من الالتزام والإكتفاء بالشعور بأننا وصلنا والكسل بألا نطلب شيئًا من الحياة؛ علينا أن نخاطر ببساطة لنلتقي بطفل وهذا الأمر يستحق العناء لأننا عندما سنجد ذلك الطفل ونكتشف حنانه ومحبّته، سنجد أنفسنا.
الانطلاق في المسيرة ليس سهلاً؛ وهذا ما يظهره لنا الإنجيل من خلال مختلف الشخصيات. هناك هيرودس الذي يُقلقه خوف ولادة ملك يُهدّد سلطته، ولذلك ينظّم اجتماعات ويرسل من يجمع له المعلومات؛ ولكنّه لا يتحرّك يبقى منغلقًا في قصره. أورشليم أيضًا خائفة: تخاف من حداثة الله وتفضِّل أن يبقى كلَّ شيء كما كان ولا أحد يملك الشجاعة للسير.
أما تجربة الأَحبار وكَتَبَة الشَّعب فهي دقيقة هم يعرفون المكان الصحيح ويخبرون هيرودس به وينوِّهون بالنبؤة القديمة. يمكن لهذه التجربة أن تكون أيضًا تجربة من يؤمن منذ زمن طويل: يتحدَّثُ عن الإيمان كشيء يعرفه ولكنّه لا يلتزم شخصيًّا في سبيل الرب. يتكلّم ولكنّه لا يصلّي، يتذمَّر ولا يصنع الخير. أما المجوس فيتكلّمون قليلاً ويسيرون كثيرًا. برغم جهلهم لحقائق الإيمان هم يرغبون في السير، كما تظهر أفعال الإنجيل: "جِئنا لِنَسجُدَ لَه"، "ذَهَبوا، دخَلوا، جَثَوا له ساجِدين، انصَرَفوا": لقد كانوا في حركة دائمة.
التقدمة. عندما وصلوا عند يسوع، بعد سفر طويل، فعل المجوس كيسوع: قدّموا. يسوع هو هناك ليقدِّم حياته وهم يقدِّمون خيورهم الثمينة: ذَهب وبَخور ومُرّ. يتحقق الإنجيل عندما تبلغ مسيرة الحياة إلى العطاء. إنَّ العطاء المجاني من أجل الرب وبدون مقابل هو العلامة الأكيدة بأننا قد وجدنا يسوع القائل: "أَخَذتُم مَجَّاناً فَمَجَّاناً أَعطوا". علينا أن نصنع الخير بدون حسابات حتى إن لم يطلب أحدٌ منا ذلك حتى وإن لم يُربحنا هذا الأمر شيئًا وإن لم يكن هذا الأمر يعجبنا. هذا ما يريده الله؛ هو الذي صار صغيرًا من أجلنا يطلب منا أن نقدِّم شيئًا لإخوته الصغار. من هم هؤلاء الصغار؟ إنّهم أولئك الذين لا يمكنهم مبادلتنا كالمحتاج والجائع والغريب والمسجون والفقير.
أن نقدِّم هديّة مقبولة ليسوع هي أن نعتني بالمريض ونكرِّس وقتًا لشخص صعب المراس ونساعد شخصًا لا يُهمّنا، ونغفر لمن أساء إلينا. إنها عطايا مجانيّة ولا يمكنها أن تغيب في الحياة المسيحيّة كما يذكّرنا يسوع إن أحببنا من يحبّنا نكون كالوثنيين. لننظر إلى أيدينا التي غالبًا ما تكون فارغة من الحب ولنحاول اليوم أن نفكِّر بهديّة مجانيّة نقدِّمها بدون مقابل وتكون مقبولة لدى الرب؛ ولنطلب منه قائلين: "يا رب إجعلني أكتشف مجدَّدًا فرح العطاء!"
إذاعة الفاتيكان.