الإنتظار الفَرِح

متفرقات

الإنتظار الفَرِح

 

الإنتظار الفَرِح

 

قبل حلول عيد الميلاد، نقترب بِرهبةٍ ودهشةٍ من "المكان" الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بدأ فيه كلّ شيء، ووجد كلُّ شيء اكتماله، هناك حيثُ التقت وتشابكت انتظارات العالم وقلب الإنسان مع حضور الله.

 

يُمكننا منذ الآن أن نتذوّق البهجة لذاك النّور الخافت الذي يُرى من بعيد، والذي بدأ يشعّ في العالم من مغارة بيت لحم. في درب زمن المجيء، الذي دعتنا الليتورجيّا إلى عيشه، تمّت مرافقتنا لاقتبال الحدث الكبير لِمجيء المخلِّص باستعدادٍ وامتنان، ولتأمُّل دخوله إلى العالم وملؤنا الدّهشة.

إنّ الإنتظار الفَرِح، وهو سمة الأيّام التي تسبق عيد الميلاد المجيد، هو بالتّأكيد الموقف الأساسيّ للمسيحيّ الذي يبغي أن يعيش بشكلٍ مُثمر اللقاءَ المتجدِّد مع ذاك الذي يأتي ليسكن بيننا: يسوع المسيح، ابن الله الذي صار إنسانًا.

 

إنّنا نجد من جديد استعداد القلب هذا، ونجعله خاصّتنا، في الذين استقبلوا مجيء المسيح منذ البدء: زكريّا وإليصابات، الرُعاة، وعامّة الشّعب، وخصوصًا مريم ويوسف، اللذين اختبرا شخصيًّا الرّهبة، ولكن قبل كلّ شيء الفرح بسرّ هذه الولادة.

 

يشكِّل كلّ العهد القديم وعدًا كبيرًا وحيدًا، كان يجب أن يكتمل بمجيء مخلّص قدير. يقدِّم لنا شهادة عن هذا الأمر بالأخصّ سفرُ النبيّ أشعيا (13/ 8)، الذي كلّمنا عن مخاض التاريخ وجميع الخلق لِخلاصٍ يهدف إلى إعادة ضخّ طاقات جديدة وتوجّه جديد في العالم بأسره. وهكذا، إلى جانب انتظار شخصيّات الكتاب المقدّس، يجد مكانًا ومعنًى، عبر القرون، انتظارُنا نحن أيضًا، الذي نختبرهُ في هذه الأيّام والذي يُبقينا يقِظين في سائر درب حياتنا.

 

فكلُّ الوجود الإنسانيّ يُحييه هذا الشعور العميق والرّغبة بأن يستطيع ما هو أحقّ وأجمل وأكبر، فيما شهدناه من بعيد وأدركناه بعقلنا وقلبنا، أن يأتيَ للقائنا ويصبحَ أمام أعيُننا ملموسًا حتّى ينهض بنا.

̎هوّذا يأتي الربّ القدير: سوف يُدعى عمّانوئيل، الله معنا، نُكرِّر هذه الكلمات في كثير من الأحيان هذه الأيّام. ففي زمن الليتورجيّا، الذي يجعل السرّ آنيًّا، إنّه الآن على الأبواب ذاك الذي يأتي ليخلِّصنا من الخطيئة والموت، الذي يُعانقنا من جديد بعد عصيان آدم وحوّاء، ويفتح لنا الباب على مصراعيه لولوج الحياة الحقيقيّة.

 

هذا ما يُفسِّره القدّيس إيريناوس، في كتابه "ضدّ الهرطقات"، عندما يؤكِّد قائلاً: "إنّ ابن الله نفسه قد نزل «في جسد يُشبه جسد الخطيئة» (الرسالة إلى أهل روما 8، 3) ليدين الخطيئة، وبعد إدانته لها، ليستبعدها تمامًا عن الجنس البشريّ. لقد دعا الإنسان للتشبّه به، وجعَله مُقتديًا بالله، ووجَّهَه إلى الدرب الذي أشار إليه الآب كي يتمكّن من رؤية الله، ومَنَحَه كهبةٍ الآبَ نفسه" (الفصل الثالث، 20، 2-3).


تبدو لنا هنا بعض الأفكار المُفضّلة للقدّيس إيريناوس، حيث يدعونا اللهُ في الطفل يسوع إلى التشبّه به. وهكذا فهو يذكّرنا بأنّه يجب علينا أن نكون على صورة لله. ويجب أن نقتديَ به. لقد وهب الله ذاته، وهب الله ذاته بين أيدينا. وفي النهاية فكرة جوهريّة للقدّيس إيريناوس: الإنسان لا يرى الله، لا يستطيع أن يراه، وهكذا فهو في ظلام حول الحقيقة، حول نفسه. لكنّ الإنسان الذي يقدر على رؤية الله، يمكنه أن يرى يسوع. وهكذا فإنّه يرى الله، وهكذا يبدأ في رؤية الحقيقة، وهكذا يبدأ في أن يحيا.

يأتي المخلِّص إذًا، لضرب قدرة الشرّ وكلّ ما يمكنه أن يُبقينا بعيدين عن الله، كي يُعيدنا إلى الوهج القديم وإلى الأبوّة الأصليّة. بِمجيئه بيننا، يشير لنا الله إلى مهمّة ويوكلنا بها: أن نكون تحديدًا على مثاله وأن نسعى إلى الحياة الحقيقيّة، وأن نصل إلى رؤية الله في وجه المسيح.

 

يؤكِّد إيريناوس أيضًا:  "كلمة الله أقام مسكنه بين البشر وجعل نفسه ابن الإنسان، ليجعل الإنسان يعتاد على إدراك الله، وليجعل الله يعتاد على إقامة مسكنه في الإنسان وفقـًا لمشيئة الآب. لهذا فقد أعطانا الله كَـ«علامة» لخلاصنا، ذاك الذي وُلد من العذراء وهو العمّانوئيل".

 

تكمن هنا أيضًا فكرة جوهريّة جميلة جدًّا للقدّيس إيريناوس: علينا أن نعتاد على إدراك الله. الله بعيدٌ عادةً عن حياتنا وأفكارنا وأعمالنا. لقد جاء قربنا وعلينا أن نعتاد على البقاء مع الله. وبجرأة يتجاسر إيريناوس على القول أنّ الله عليه أن يعتاد على أن يكون معنا وفينا.

 

وأنّه ربّما ينبغي على الله أن يرافقنا في عيد الميلاد، أن نعتاد على الله، كما يجب على الله أن يعتاد علينا، على فقرنا وضعفنا. مجيء الربّ بالتالي لا هدفَ آخر له سوى أن نتعلّم كيف نرى ونحبّ الأحداث والعالم وكلّ ما يحيط بنا، بِعيني الله نفسهما. الكلمة الذي صار طفلاً يساعدنا على فهم كيفيّة عمل الله، كي نقدر أن ندعه يحوّلنا أكثر فأكثر من خلال طيبته ورحمته اللامُتناهية.

في ليل العالم، لندع أنفسنا نندهش ونستنير بِعمل الله هذا، غير المُنتظر أبدًا: جعل الله من نفسه طفلاً. لندع أنفسنا نندهش، ونستنير بالنجمة التي غمرت الكون بالفرح. فلا يجدنا الطفل يسوع، عندما يصل إلينا، غيرَ مستعدّين، عاملين فقط على تجميل الواقع الخارجيّ.

 

لِتدفعنا العناية التي نقوم بها لجعل شوارعنا وبيوتنا مُشعّة، أكثر فأكثر إلى تهيئة نفوسنا للقاء الذي سوف يأتي لزيارتنا، والذي هو الجمال الحقيقيّ والنّور الحقيقيّ. لِنُنقّ ِ إذًا ضمائرنا وحياتنا ممّا يتعارض مع هذا المجيء، من أفكار وكلمات ومواقف وأعمال، حاثّين أنفسنا على الخير ومُساهمين في تحقيق في هذا العالم السّلام والعدالة لكلّ إنسان والسّير هكذا لِمُلاقاة الربّ.

إنّ السِمة المميّزة لِزمن الميلاد هي المغارة، إذ تُمثِّل جمال سرّ الله الذي صار إنسانًا، ونصب خيمته بيننا (إنجيل يوحنّا 1، 14). المغارة هي تعبير عن انتظارنا، وعن أنّ الله يقترب منّا، ويسوع يقترب منّا، لكنّها أيضًا تعبيرٌ عن فعل شكرٍ للذي قرّر أن يشاركنا حالتنا البشريّة، في الفقر والبساطة.

 

إنّي أبتهج لأنّها لا تزال حيّة، لا بل يُعاد اكتشاف تقليد إعداد المغارة في المنازل وأماكن العمل وأماكن اللقاء. لِتقدِّم هذه الشّهادة العفويّة عن الإيمان المسيحيّ اليوم أيضًا إلى جميع الناس ذوي الإرادة الصّالحة أيقونةً توحي بمحبّة الآب اللّامتناهية تجاهنا جميعًا. ولتندهش بعدُ قلوبُ الأطفال والكبار أمامها.

فلتساعدنا مريم العذراء والقدّيس يوسف على عيش سرّ الميلاد بامتنان مُتجدِّد للربّ. فليمنحنا هذا الزمن بعض الهدوء والفرح ويجعلنا نلمس لمس اليدّ طيبة إلهنا، الذي جعل من نفسه طفلاً ليخلّصنا ويُعطينا شجاعة جديدة ونورًا جديدًا لِدربنا.

 

البابا بنديكتس السادس عشر - 2010