العالم يعيش في أزمة: مجاعة، حروب، إرهاب، أمراض، دون التحدُّث عن الأزمة الاقتصاديَّة والماليَّة. وبالتالي ثقتنا تتأرجح على مثال تأشيرات البورصة ونحن ننتظر أناسًا منقذين.
عالم يوحنّا المعمدان كان أيضًا في أزمة: بلاد مستعمرة، شحّ في الأنبياء، اجتياح اليونان وثقافتهم الفلسفيّة بالإضافة إلى الاحتلال الرُّوماني. والأجوبة متعدِّدة: الصدوقيُّون يتعاونون، والأسينيون التجأوا إلى الصّحراء، والفريسيِّيون يفكّرون.
من بين هذه الفئات من الناس، الأغلبية تأمل في العودة إلى الماضي، إلى الترميم: يتمسكون بالشَّريعة ويفسّرونها ليجدوا الحلول المناسبة لمشاكل الحياة اليوميّة. ولكن الخطر هو، بما أنّ الله صامت فالإنسان يتصرّف لوحده ويضع الله جانبًا.
آخرون ينتظرون بشكل خاصّ عودة النبيّ إيليّا. يتمسّكون بالنبي أشعيا وبتيار يُسمّى «الرؤيوي»، الذي يُعتبر نص أشعيا (أش 61، 1 – 11) هو المصدر. هذا التيار هو أكثر من مجرّد أسلوب أدبيّ تصويري، إذ يتميّز بالانتظار.
انتظار ماذا؟ انتظار من؟ تدخل قاطع من الله، أي تدخل الله ذاته لصالح شعبه ليفديه من الخطيئة، ويبرره ويسامحه. هنا الخطر متماثل، لأنّه، بما أن الله صامت فننتظر دون أن نعمل شيئاً.
وفجأة على ضفاف نهر الأردن، في وسط الصّحراء يظهر تدخل جديد. ظهر بمظهر النبيّ إيليّا، يلبس رداءً من وبر الجمال. يأكل من الجراد، ويعلن نهاية العالم. فمن هو هذا الإنسان؟ يرسل الفريسيّون والكتبة ممثلين لهم إليه ليبحثوا (يو 1، 6 – 28).
هذا الإنسان هو ابن زكريّا كاهن الهيكل، لكنّه يرفض أن يُصنّف في فئة معيّنة: فهو ليس النبيّ «موسى الجديد»، ولا المسيح «داود الجديد» ولا إيليّا «المُنتظرة عودته». فإذن من هو هذا الإنسان؟
من أين، من أيّ مصدر أو مرجع يتحدّث؟ «أنا صوت صارخ في البريَّة...». يوحنّا المعمدان يستند على آية تعود لنبي مجهول في نهاية السبي والذي يُسمّى أشعيا الثاني.
مقدِّمة إنجيل يوحنّا تقدم لنا يوحنّا المعمدان كشاهد، وليس كمراقب، ولكن شخص ملتزم. إنّه الصَّوت. الوسيط، وليس الكلمة ولا المحتوى. فنحن قادرون على أن نعرف صوت معيّن، حتى ولو تكلّم بلغة نجهلها.
وفي الواقع يتحدّث يوحنّا المعمدان عن شخص «لا تعرفونه». في هذه المقدمة ليس المقصود فعل المعرفة، بل العلم بالشيء، ممّا يعني معرفة شيء معيّن، أو إنسان ما لا نملك أيّة فكرة عنه وسوف يأتي ليحطّم كلّ أشكال مرجعيّاتنا.
فالموضوع هو استقبال جديد جذريّ، إنسان جديد، وأن نتوقف عن كلّ حساباتنا، تقديراتنا وتنوءاتنا ومخططاتنا. لم نعد في المستقبل، إنّما بالآتي. فهل هذا هو انتظارنا اليوم؟
يعلن يوحنّا المعمدان التوبة ويدعو إليها، وليس الثورة. ويتكلّم باسمه «أنا» فلم يعد إنسان مجهول. يتكلّم بوضوح: رسالته ليست مخفيّة ويتوجّه للجميع: لا وجود لشيء خاصّ لفئة معينة من النّاس.
في كلِّ ذلك يعلن مجيء الله، لكنّه يبقى تابعًا لصور التيار الرؤيوي. إنّه يتحدّث انطلاقـًا من الماورائيّات. وهذا سيجعل يسوع ينفصل عنه، أن يتخلّى عن تلمذته له؛ لأنّ يسوع يأتي ليحقـِّق الملكوت على الأرض!
وأنا؟ ونحن؟ هل نحن في انتظار؟ ماذا؟ من؟ فالرَّجاء هو بُعد أساسيّ من الإيمان، انفتاح على مَن يقول لنا «هاءَنَذا آتي بالجَديد... أَفلا تَعرِفونَه؟» (أش 43، 19). الخطر هنا مزدوج.
إمّا انتظارنا غامض، ننتظر مخلّصًا سيقوم بكلِّ شيء، فنستقيل إن صحَّ التعبير. وإمّا نشمر عن سواعدنا ونناضل، نرسم مخططات، نهتدي... ولكن قد نغلق على الله في رؤيتنا ومنظورنا.... أو نأخذ مكانه.
إحدى مقاييس النبيّ الصّحيح هو أنّه يرسل إلى آخر «لست النبيّ، لست... هوذا حمل الله.. يأتي بعدي من هو أعظم منّي».
إحدى مقاييس التلميذ الحقيقيّ تعلّقه بشخص المسيح ما وراء الصّوت والرِّسالة والألقاب. وهذا ينطبق على بطرس والتلاميذ، كبولس ونيقوديمس. ينطبق على الجميع. ولدينا مريم العذراء كنموذج للانتظار، الانتظار الذي لا يبحث عن الفهم، عن التحكم، إنّما انتظار مفتوح على تدخل الله. فلنطلب منها أن تدخلنا في انتظارها.
الأب رامي الياس اليسوعي.