الإبن الشاطر

متفرقات

الإبن الشاطر

 

 

 

 

فقدان هويّة ابن الله.

 

 

 

تُدرج الكنيسة المارونيّة هذا النّص في الأحد الرابع من الصوم الكبير، أي في منتصف الصوم الكبير، ويحتلّ في إنجيل لوقا (لو 15/ 11-32) موقعاً مميّزاً، يتشابه وموقعه من الصوم، الموقع المحوريّ للإنجيل الثالث، فيلخّص في اثنتين وثلاثين آيةً قصّة الخلاص بأكملها، ويوضح طبيعة العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد، واكتمال القديم بمجيء يسوع المسيح كمخلّص أُعطي للبشريّة بأسرها لا لشعب واحد أو لأقلّية مختارة.

 

هذا الأحد الرابع من آحاد الصوم يضعنا أمام شفاء جديد.  بعد الأبرص والنازفة، نجد قصّة شفاء من نوع آخر، شفاء يطال أعمق أعماق الإنسان المتألّم، شفاء الحريّة المريضة التي تؤدّي بالإنسان الى فقدان أثمن ما يملك، فقدان هويّة ابن الله.

 

أبٌ وابنان، في كلّ منهم نجد القليل من هويّتنا.  فكم من الأحيان نفتّش عن التحرّر، نرغب بتحطيم قيود تربطنا بالله، بعائلتنا، بمجتمعنا؟ نرغب في ترك كلّ شيء، نقلّل من أهميّة ما نملك ونفتّش عن سعادة القلب بعيداً عن الله.

 

كم نشبه الإبن الأصغر! نريد أن نكون أسياداً على أنفسنا، نترك الآب السماويّ، نغادر بيتنا الأبوّي، نبتعد عن الكنيسة وعن الجماعة، ونذهب لاهثين وراء لذّات تمضي ولا تروي ظمأ قلبنا الى السعادة الأعمق.  نبحث عن سعادة فنصطدم بتعاسة وجودنا الفارغ. نسعى الى حريّتنا فنجد أنفسنا مستعبدين لحقارة لذّاتنا ولدناءة الخطيئة. نتعب من قذارة خطيئتنا، نتألّم من جراح معاصينا، تصبح أعمالُنا أحمالاً ثتقل كواهل ضميرنا ونتوق الى التحرّر منها.  نسعى الى حريّتنا فنجد أنفسنا مستعبدين لحقارة لذّاتنا وأهوائنا. نيأس من وجودٍ صار دون فرح، نقضي أيّاماً لا لون لها ولا نكهة، أيّام تمرّ ونحن مستعبدون لفلسفة اللّحظة ولنهم الّلذة علّنا نروي ظمأنا الى السعادة، وتمرّ السنون ويبقى قلبنا تعيسًا.

 

قصّة خطيئتنا هي قصّة الإبن الأصغر، وقصّة توبتنا يمكنها أن تجد مثالها في قصّة عودة هذا الإبن الشّريد الى أحضان أبيه. لقد خطئنا الى السَّماء، الى الله الّذي أحبّنا فأجبنا على حبّه بابتعادنا وبعدم اكتراثنا بانتظاره لنا.  

 

أخرجنا الى الوجود فحاولنا أن نخفيه في عدميّة حياتنا، أعطانا صورته ومثاله فشوّهنا الصّورة وابتعدنا عن المثال، دخل معنا في علاقة حبّ وصداقة، فتركنا رافضين محبّته، أعطانا ابنه الوحيد مائتاً عنّا، مشرعاً ذراعيه فوق الصليب صورة لذراعي الآب المفتوحتين دوماً لمعانقتنا.

 

لقد اخطأنا الى السماء نعم، إنّما أثِمنَا أيضاً تجاه إخوتنا البشر، أخطأنا الى كنيسة المسيح والى أخينا الإنسان وجعلناه عبدًا لشهواتنا ولمصالحنا الخاصّة ولنزواتنا. إن خطيئتنا تجرح الإنسان، ومداواة هكذا جرح تتطلّب المصالحة، ليس مع الله فقط بل مع الإنسان أيضًا.  

 

لذلك وجب سرّ التوبة والمصالحة، حيث يمثّل الكاهن المسيح نفسه، باسمه وبشخصه يعطي الغفران، ويمثّل البشريّة بأسرها، الكنيسة التي جرَحَتهَا خطيئتي، والتي تصلّي لي وتضرع من أجلي.  

 

يمثّل الكاهن في سرّ المصالحة كلّ شخص امتهنتُ كرامته بخطيئتي، واستعبدت جسده برذيلتي وبشهواتي، ولم أرَ فيه صورة الله وكرامة يسوع.

 

إنّما كم نشبه أيضًا ذلك الأخ الأكبر الّذي قطع كلّ علاقة له بأخيه بعد أوّل زلّة اقترفَها هذا الأخير؟ لم يعد يدعوه "أخي"، بل صار "ابنك هذا الّذي بدّد أموالك على الزواني"؟

 

كم كان سهلاً عليه تقديم العدالة العمياء على الرَّحمة الأخويّة؟

 

كم نكرّر نحن الفعل ذاته كلّ يوم؟

 

كم مرّة نقول: "هذا خاطئ لا يستحقّ الرحمة"؟

 

كم نقول أن الله غير عادل لأنّه لا يهلك الخاطئين؟

 

كم هو قاسٍ قلبُنا تجاه إخوة لنا نفتّش عن هلاكهم تحت شعار العدالة وفي الصميم لا نفتّش إلاّّ عن الإنتقام.

 

نحن نشبه الإبن الأكبر حين نؤمن بالله ونطبّق وصاياه سعيًا وراء مكافأة أو لنبرز فضائلنا أمام الآخرين، نبني إيماننا على حصريّة الخلاص وعلى نظرة فوقيّة: نحن دائمًا الأحسن، والأقدس والأكمل، ونحن الأكثر استحقاقًا لمواعيد الخلاص.

 

فهلاّ نملك القليل القليل من حبّ الآب ورحمته؟

 

هلاّ نعلم أن دعوتنا هي مشاركة المسيح في خلاص إخوتنا البشر؟

 

هل نترك في قلبنا بعضًا من فسحة أمل لمن خطئ إلينا بأن يجد بعضًا من قبول؟

 

بهذا فقط يكون صومنا كاملاً، حين نحيا سرّ توبة مستمرّة، ونعلم أن وجودنا المسيحيّ هو سعيٌ دائم للعودة الى الآب في فعل اتّضاع بنويّ، وأن قمّة الفرح هي في أن نرى باب الرّجاء يُفتَح مجدّدًا لأخ لنا تائب، يعود مثخنًا جراحًا ليجد الشفاء في مغفرة الآب وفي قبولنا له.

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.