نعيش في زمن رخيص فيه دمّ الإنسان، ورخيصة الكرامة التي بها كلّله الله، ورخيصة السعادة التي من أجلها أرسل الله الأنبياء، ورخيص الخلاص الذي مات في سبيله ابن الله. حماقة! حماقتنا نحن، إذ لا نميّز بين العابر والباقي، ولا بين المهمّ وغير المهمّ. نعرف حماقتنا ونسخر منها، حين نراها عند الآخرين، أمّا الخشبة التي في عيوننا فلا نراها. وكأنّنا احترفنا الحماقة!
ولكن من الطبيعيّ أن نسقط في الحماقة طالما أنّنا لا نتأمّل في الأمور "التي في العلى". ما هي هذه الأمور؟ كثيرًا ما اتُّهم المسيحيّون بأنّهم يعيشون في عالمٍ وهميّ، في عالمٍ خفيّ، لا يهتمّون لأمورِ الأرض لأنّهم مشغولون بأمور السَّماء.
بل بين الرُّوحانيّات المسيحيّة نوع من الاختلاف: منها ما يدّعي عدم الاكتراث لهذه الدّنيا، لأنّ الآخرة هي الأهمّ، وكأنّ ابن الله لم يتجسّد على أرضنا، وكأنّه لم يروِ لنا قصّة السَّامريّ الصَّالح ليُعيدنا من أوهامِ التقويّات والتديُّن الأعمى إلى حبّ القريب الذي هو هنا، أمام عينيّ إن اكترثتُ لأن أراه؛ ومنها ما يدّعي أنّه روحانيّة متجسّدة، يضيع في حسابات البشر ويضيع منه رجاء الخلاص، يظنّ أنّ حياة الإنسان من ثروته، قد لا تكون ثروة مادّيّة، قد يسمّيها "حوار" أو "عدالة" أو "قضيّة" ولكنّه لا يجد فيها حياة أبديّة.
ليست "الأمور التي في العُلى" مفصولة عن صراعاتنا اليوميّة. يقول الله في أشعيا (الفصل 55): "أفكاري ليست أفكاركم ولا طُرقكم طُرقي، كما عَلَت السّماوات عن الأرض كذلك عَلَت طُرقي عن طُرقكم وأفكاري عن أفكاركم." ثمّ يضيف أنّ الكلمة التي تخرج من فمه تأتي إلى الإنسان كما ينزل المطر على الأرض فيجعلها تنبت زرعًا وتُعطي طعامًا.
الأمور التي في العُلى هي كلمة الله التي تحرّر الإنسان من الأصنام التي تستعبده. من يسمع كلمة الله يرى الأصنام في ما حوله، كما رآها بولس وأخبر عنها (قولسّي 3: 1-5 ). نقضي حياتنا ننتظر أن توافقنا الظروف. نبني سعادتنا على الظروف ونأمل منها أن تحقّق لنا آمالنا. ولكنّ الظروف متقلّبة والسعادة المبنيّة عليها وهميّة.
فتملأنا فرحًا أحيانًا وتعاسة في أحيانٍ أخرى، وتولّد فينا مشاعر الغضب حين لا تؤاتينا، ومشاعر الغيرة والحسد حين تؤاتي غيرنا، فتدفعنا لحماقات لا نريدها ونرى أنفسنا مستعبدين في تصرّفاتٍ لا نحبّها ولكنّنا لا نَتَوانى عن أن نأتيها. هذه العبوديّة شوّهت خلق الله، وملأت الدّنيا عنفًا.
أمّا ما تدعونا إليه كلمة الله هو أن نَجِد فرحنا لا في الظروف، بل مهما كانت الظروف. يدعونا أن نفرح لأنّ الله خلقنا، أي أرادنا، أي أحبّنا. إنّ العلاقة مع الآب هي علاقتنا الأساسيّة. ليست الظروف المؤاتية علامة حبّ الله ولا الظروف الصعبة علامة رفض الله، بل هي تقلّبات الدنيا التي نعمل فيها ما استطعنا في سبيل الخير، ونعرف ألَمها على أنّه ألم مخاض يتحدّى رجاءنا لكي يَنمو.
يوميًّا نحن نصارع في سبيل أن يظهر حبّ الله في أجسادنا الضعيفة. يوميًّا نحن نجاهد لنغلب في ذواتنا الأنانيّة والحسد، وكلّ أعمال الإنسان القديم. صراعنا ضدّ أفكار العالم وقيم الموت، صراعنا هو لكي نتبنّى أفكار الله. هذه هي الأمور التي في العُلى، تلك التي لها قيمة تدوم.
ماذا إذًا؟ هل أتخلّى عن حقّي في الميراث لأنّ أخي يريد أن يغتصبه منّي؟ لا يحبّ إلهنا الظلم، ولا نحن. ولكنّي لن أنسى أنّ أخي أهمّ من الميراث، وأنّ الحياة أهمّ من المال. حين أستطيع أن أحسّن الظروف لن أتوانى، وحين لا أستطيع لن أتخاذل.
فحياتي ليست مقتصرة على ظروف متقلّبة، وظلم هذا العالم لن يجد حلاًّ في قوانين وشرائع. بل فلنخض الصراع الحاسم، الصراع ضدّ قساوة قلوبنا، فنكون على صورة المسيح كلمة الله، التي تأتي إلى الإنسان لتحرّره من سطوة العبوديّة. "أمّا وقد قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في العلى، حيث المسيح" (من رسالة القديس بولس إلى أهل كولوسي 3/ 1).
الأب داني يونس اليسوعيّ