بمناسبة إعلان قداسة الأمّ تريزا دي كالكوتا ترأّس أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين صباح اليوم الإثنين قدّاس شكر في ساحة القدّيس بطرس وللمناسبة ألقى عظة قال فيها:
لقد عدنا اليوم إلى ساحة القدّيس بطرس يملؤنا الفرح لنشكر الربّ على عطيّة إعلان قداسة الأمّ تريزا دي كالكوتا، القدّيسة تريزا دي كالكوتا.
ما أكثر الأسباب التي تحملنا على أن نظهر امتناننا العميق للربّ! نشكره على شهادة الإيمان البطوليّة للقدّيسين والتي من خلالها يجعل الربّ كنيسته خصبة ويعطينا نحن أبناءه علامة أكيدة لمحبّته. نشكره بشكل خاصّ لأنّه أعطانا القدّيسة تريزا دي كالكوتا التي شكّلت بصلاتها المستمرّة مرآة لمحبّة الله ومثالاً لخدمة القريب ولاسيّما للأشخاص الأشدّ فقرًا والمتروكين: مرآة ومثال نستخرج منهما الإرشادات الثمينة والدوافع لنعيش كتلاميذ صالحين للربّ ونتوب عن فتورنا ونسمح لنار محبّة المسيح أن تتّقد في داخلنا.
لقد كانت الأمّ تريزا تحبّ أن تشبّه نفسها بالـ "قلم بين يديّ الربّ"، وما أكثر قصائد المحبّة والشفقة والتعزية والفرح التي عرف أن يكتبها ذلك القلم الصغير! قصائد محبّة وحنان من أجل أفقر الفقراء الذين كرّست حياتها من أجلهم، بهذه الطريقة تشير إلى "دعوتها في الدّعوة" التي نالتها في شهر أيلول سبتمبر عام 1946.
لقد فتحت الأمّ تريزا عينيها على الألم وعانقته بنظرة شفقة وسمحت لهذا اللقاء بأن يُسائل حياتها ويخترق قلبها على مثال يسوع الذي تأثّر بألم الخليقة البشريّة الغير قادرة على النهوض بمفردها. وبالتالي كيف لا يمكننا أن نقرأ أحداث حياتها في ضوء كلمات البابا فرنسيس في مرسوم إعلان يوبيل الرّحمة عندما يكتب: "دعونا لا نقع في فخ اللامبالاة التي تذل وفي الاعتياد الذي يخدّر النفس ويحول دون اكتشاف الحداثة من خلال التهكّم الذي يدمّر. لنفتح أعيننا كي نرى بؤس العالم، جراح العديد من الإخوة والأخوات المحرومين من الكرامة، لنشعر بأننا مستفَزون للإصغاء لصرخة النجدة التي يطلقونها. لنشد بأيدينا على أيديهم، لنجذبهم إلينا كي يشعروا بحرارة حضورنا وصداقتنا وأخوّتنا" (وجه الرحمة عدد 15).
لكن ما هو سرّ الأمّ تريزا؟ ليس سرًّا بالتأكيد لأنّنا قد أعلناه بصوت عال في الإنجيل منذ قليل: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25، 40). لقد اكتشفت الأمّ تريزا في الفقراء وجه المسيح الذي افتَقَرَ لأَجْلِنا وهو الغَنِيُّ لِنغتني بِفَقرِه وأجابت على محبّته اللامحدودة بمحبّة لا محدودة تجاه الفقراء: "مَحبَّةُ المسيحِ تَأخُذُ بِمَجامع قَلبِنا" (2 كور 5، 14).
لقد تمكّنت من أن تصبح علامة منيرة للرّحمة، إذ كانت الرّحمة بالنسبة لها الملح الذي أعطى طعمًا لكلّ أعمالها والنور الذي أضاء ظلمات الذين لم يعد لديهم دموعًا ليبكوا فقرهم وألمهم، لأنّها – وكما قال البابا فرنسيس – سمحت بأن ينيرها المسيح المعبود والمحبوب والممجّد في سرّ الإفخارستيا.
لقد كانت تعرف جيّدًا أنّ أحد أشكال الفقر المؤلمة يقوم على المعرفة بأنّنا غير محبوبون أو غير مرغوب فينا أو محتقرون. إنّه نوع من الفقر حاضر أيضًا في البلدان والعائلات الأقل فقرًا وفي الأشخاص الذين ينتمون إلى فئات تتمتّع بالإمكانات الماديّة ولكنّهم يختبرون الفراغ الداخليّ لأنّهم قد فقدوا المعنى والهدف لحياتهم أو أنّهم يعيشون ألم تفكك العلاقات وقساوة الوحدة والشّعور بأنّه قد تمَّ نسيانهم من قِبل الجميع وبأنّهم ليسوا نافعين لأحد. وهذا الأمر قد حملها لترى في الأطفال الذين لم يولدوا والمهدّدين في حياتهم "الأفقر بين الفقراء" إذ أنّ كلاً منهم، وأكثر من أيّ كائنٍ بشريٍّ آخر، يعتمد على محبّة وعناية الأمّ وحماية المجتمع.
لذلك، دافعت الأمّ تريزا بشجاعة عن الحياة التي تُبصر النّور بصدق الكلمة والعمل اللذين يشكّلان العلامة المنيرة لحضور الأنبياء والقدّيسين الذين لا يركعون إلّا أمام الله الضابط الكلّ وهم أحرار في داخلهم لأنّهم أقوياء ولا ينحنون أمام الأصنام المعاصرة بل يجدون أنفسهم في الضمير الذي تنيره شمس الإنجيل.
في الأمّ تريزا نكتشف الرّابط الوثيق بين العيش البطوليّ للمحبّة والوضوح في إعلان الحقيقة، ونرى العمل الدؤوب الذي يغذّيه التأمُّل العميق وسرّ الخير الذي يتمّ فعله في التواضع وهو ثمرة الحبّ "الذي يؤلم". وفي هذا الصدّد أكّدت الأم تريزا في كلمتها لدى تسلّمها جائزة نوبل في أوسلو في الحادي عشر من كانون الأوّل ديسمبر عام 1979 أنّه من الأهميّة بمكان أن نفهم أن المحبّة الحقيقية تؤلم، ومحبّة يسوع لنا قد آلمته.
هذه الكلمات تدخلنا في حياة هذه القدّيسة وإلى عمق آلام المسيح وعطيّة محبّته اللّامشروطة وقال إنّها عمق الصّليب الذي لا يُسبر غوره لهذا الألم الناتج عن الخير الذي يتمّ فعله محبّة بالله بسبب الاحتكاك المتأتي إزاء جميع الذين يقاومونه بسبب محدودية المخلوقات وخطيئتهم والموت الناتج عنها. إنّها أيضًا ليل الإيمان المظلم الذي تقيم فيه المحبّة المتّقدة للربّ المصلوب والمحبّة نحو الإخوة المعوزين للعناية والخبز، إنّها إيمان ثابت ونقيّ والشّعور الرّهيب ببعد الله وصمته. إنّها ما يُشبه صرخة المسيح على الصّليب: "إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟" (متى 27، 46).
كلمة أخرى من الكلمات التي لفظها يسوع خلال نزاعه على الصّليب أرادت الأمّ تريزا أن تُكتب في كلّ بيت من بيوت الجمعيّة إلى جانب المصلوب وهي كلمة "أنا عطشان": إنّه العطش للماء العذب والنقي، عطش النفوس للتعزية والخلاص من شوائبها لتصبح جميلة ومقبولة في عيني الله، عطش لله وحضوره الحيّ والمنير.
لقد نالت في هذه الحياة جائزة نوبل للسّلام من أجل الخير الذي قامت به، أمّا الآن وفي الفردوس، مع العذراء مريم أمّ الله وجميع القدّيسين تنال الجائزة الأسمى التي أُعدت لها منذ إنشاء العالم، الجائزة المحفوظة للأبرار والودعاء ومتواضعي القلوب الذين قبلوا المسيح بقبولهم للفقراء. والآن وبعد الاعتراف الرّسمي بقداستها ها هي تُشعّ علينا بشكلٍ بهيّ ومشرق! ليُنِر هذا النّور، نور الإنجيل الذي لا يغرب، مسيرة حجِّنا الأرضيّ ودروب هذا العالم الصّعب. أيّتها القدّيسة تريزا دي كالكوتا، صلّي لأجلنا!
إذاعة الفاتيكان.