إنّنا للمسيح، هذه هي حقيقة حياتنا. وكما يقول القدّيس بولس: "وإذا كان أحدٌ في المسيح، فهو خليقة جديدة، زال القديم وها هو الجديد" (2قو5: 17). ولكن ما هذا الجديد الذي يجعلنا نقول مع بولس أيضًا: "فالحياة عندي هي المسيح" (فل 1: 21)؟
يعني هذا أنّنا في إرتباطنا بشخص يسوع المسيح نكتشف هويّتنا الحقيقيّة والعميقة، فننطلق في الحياة بفرح وحرّيّة، ونرتب علاقاتنا بالناس والأشياء ونوجّهها لتزيدنا إتّحادًا بيسوع، نبع الحياة والنّور والسّلام. في المسيح، نعي إنسانيّتنا ونجد ذواتنا، لأنّه يرافقنا في رحلتنا إلى أنفسنا، فنحبّ حياتنا وشخصنا وكياننا لأنّه معنا في هذا كلّه. وإذ أحببنا أنفسنا بفضل يسوع المحبّة، أنفتحت حياتنا على الآخرين، وتبدّلت نظرتنا إلى الأمور، ورأينا الواقع بعيون جديدة.
إنّ عمل يسوع فينا هو مصالحة مع الذات، بمعنى إنّنا ندرك أنّ ما من أمر في حياتنا وتاريخنا خارج عن محبّته ورحمته ونعمته، وأنّ كلّ ما نحن عليه مغمور بنور حضوره الحاني والمترفّق، وأنّه يحوّل كلّ الأمور لخيرنا، نحن مَن نحبّه، حتى خطايانا ونواقصنا (رو8: 28).
إنّ حبّ يسوع لنا يشملنا تمامًا، فهو كما يقول المزمور 139: "من ورائي ومن قدّامي تحيط بي، وتجعل عليَّ يدك... إن تسلّقت السماء فأنت فيها، وإن نزلت إلى عالم الأموات، فأنت هناك، إن اتخذت أجنحة السّحر وسكنت في أقاصي اليمّ، فهناك أيضًا يدك تهديني ويمينك تمسكني" (5، 8-10).
وهكذا يومًا بعد يوم نتبدل ونتغيّر لنصبح على صورة يسوع، وهذا ما حدث للتلاميذ. لا يتمّ الخلق الجديد في لحظة بل عبر أحداث الحياة ولقاءاتها وتساؤلاتها. ولقد شعر التلاميذ بالانتماء إلى يسوع، وأحسّوا بالفخر والامتنان للتعرّف عليه ومصاحبته.
ولكنّ مشاعر الغيرة والرَّغبة في التسلّط والتحكّم في الأمور ظلّت حيّة في قلوب التلاميذ، وأرادوا أن يغلقوا دائرة يسوع عليهم وحسب. إلّا أنّ قلب يسوع يسع الناس كلّهم ومحبّته ونعمته تشمل الجميع. وباسم يسوع يقوم أشخاص خارج إطار جماعة التلاميذ بإخراج الشياطين ويجرون المعجزات، وهنا يعلّم يسوع تلاميذه أنّ جماعته لا تعرف الحدود المغلقة، وأنّ الانتماء له يأخذ وجوهًا مختلفة، متعدّدة ومتباينة. والمعيار الأساسيّ في تمييز عمل الله هو تمجيد اسم يسوع وتحرير البشر من شياطين الكذب والغيرة والخوف والأنانيّة.
يسوع حاضر حضورًا عجيبًا في البشر، فمن أراد أن يخدمه صار خادمًا للناس، ومن أراد أن يمجّده صار منتبهًا إلى حاجات الصغار والضعاف والفقراء من حوله. فلن يضيع أبدًا أجر من سقى عطشان كأس ماء، فكأنّه روى ظمأ يسوع نفسه.
وكذلك من أهان صغيرًا أو جرّه إلى الشرّ والخطيئة، فقد خطئ إلى يسوع نفسه. يسوع هو حارس الإنسان وضمان حياته ووجوده، ومَن جرح إنسانًا فقد جرح يسوع. ولذا عندما ظهر يسوع لبولس وهو في طريقه إلى دمشق لإقتياد المسيحيّين إلى أورشليم، سأله: "لماذا تضطهدني" (أع 9: 4). ويوم الدينونة، سيتوجّه يسوع إلى مَن وضعهم على يمينه قائلاً: "كنت جوعان فأطعمتموني" (متّى 25: 35)، وإلى من هم على اليسار: "كنت جوعان وما أطعمتموني" (متّى 25: 42)، لأنّ ما فعله الناس مع الجائعين والمتعبين فقد عملوه ليسوع.
واحترام حضور يسوع فينا يعني قبل كلّ شيء استقباله وتبجيله في واقعنا الشخصيّ، وإدراك أنّ أجسادنا هي هيكل الرّوح القدس (1قو6: 19)، فأفكارنا وتخيّلاتنا ومشاعرنا، أعمالنا وكلماتنا ومواقفنا، هي تعبيرنا عن محبّتنا له، وترجمة حيّة لإنتمائنا له وارتباطنا به، وأنّ كلّ شيء فينا يكمن فيه، مصدره محبّة لا حدّ لها، وغايته محبّة الله والقريب من كلّ القلب والنفس.
ومن ثمَ، علينا أن نبعد عنّا ما يغرّبنا عن ذواتنا ويخلق حواجز وفواصل بيننا وبين الآخرين. فنتنازل عمّا قد نعتقده هام لنا إذا صار عائقـًا في سبيل وحدتنا الداخليّة وفرحنا العميق. والتخلّي هذا عن أمور وعلاقات غير نافعة أو غير بنّاءة قد يكون مؤلمًا كالصّليب، ولكنّه هو السبيل الأكيد إلى معاينة نور الفرح الحقيقيّ. يسكن يسوع قلبنا ويناشدنا الاعتناء به والدفاع عنه بكلّ همّة.
إنّه سرّ تجسّد كلمة الله فينا، سكنى يسوع في كياننا الإنسانيّ، إتحاده بنا وإتحادنا به، محبّته لنا وإيماننا به، حضوره الإلهيّ في إنسانيّتنا، وحضورنا الإنسانيّ في ألوهيّته. فمعه وبه نصبح أبناء الله وبناته، لأنّها لابن البكر بين إخوة كثيرين يقودهم إلى قلب الآب (رو8: 29).
وهكذا في صميم حياتنا البشريّة، وعبر زمان تاريخنا الشخصيّ والجماعيّ، "نعكس صورة مجد الربّ بوجوه مكشوفة، فنتحوّل إلى تلك الصورة ذاتها، وهي تزداد مجدًا على مجد، بفضل الربّ الذي هو الرّوح" (2قو3: 18). فإن أكلنا أو شربنا، عملنا أو ارتحنا، فرحنا أو عانينا، فإنّنا للمسيح.
الأب نادر ميشيل اليسوعي.