توجّه قداسة البابا فرنسيس ظهر اليوم الخميس إلى بازيليك القدِّيسة مريم الكبرى بروما حيث ألقى التأمّل الثاني في إطار يوبيل الكهنة وتمحور حول موضوع "إناء الرَّحمة".
قال الأب الأقدس إنَّ إناء الرَّحمة هو خطيئتنا. ولكن غالبًا ما تكون خطيئتنا كمصفاة أو كإبريق مثقوب تخرج منه النعمة في وقت قليل: "شعبي يرتَكبُ شَرَّينِ: "ترَكوني أنا ينبوعُ المياهِ الحيَّةِ وحفروا لهُم آبارًا مُشَقَّقةً لا تُمسِكُ الماءَ" (إرميا 2، 13).
من هنا ضرورة أن يوضّح الرَّبُّ لبطرس بأن "يغفر سبعين مرَّة سبع مرَّات". الله لا يتعب من المغفرة حتى عندما يرى أن نعمته يبدو وكأنّها لا تنجح في أن تغرز جذورها في أرض قلبنا، أو عندما يرى أنَّ الدَّرب قاسية مليئة بالأعشاب والحصى. فهو يعود مجدّدًا ليزرع رحمته ومغفرته.
يمكننا بالتالي أن نقوم بخطوة إضافيّة في رحمة الله هذه والتي هي على الدوام "أكبر من يقيننا" بالخطيئة. إنَّ الرَّبَّ لا يتعب من المغفرة وحسب بل يجدّد الخوابي التي نقبل فيها مغفرته. يستعمل خابية جديدة للخمر الجديدة لرحمته، لكي لا تكون كثوب مرقـَّع أو كخابية قديمة أخرى.
وهذه الخابية هي رحمته: رحمته بقدر ما نختبرها وبقدر ما نطبِّـقها من خلال مساعدة الآخرين. إنَّ القلب الذي نال رحمة ليس قلبًا مُرقـَّعًا وإنَّما مخلوقـًا مُجدّدًا. ذاك الذي يقول عنه داود: "قلبًا نقيًّا أخلق فيّ يا ألله وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي" (مزمور 50، 12). هذا القلب، المخلوق مجدّدًا، هو وعاء صالح.
تعبّر الليتورجيّة عن نفس الكنيسة عندما تجعلنا نعلن تلك الصَّلاة الجميلة: "اللهمَّ يا من خلقتَ الإنسان على صورتك ومثالك خلقـًا عجيبًا وبطريقة أعجب فديته" (العشيّة الفصحية، الصلاة بعد القراءة الأولى). وبالتالي فهذا الخلق الثاني هو أعجب من الأوَّل. إنّه قلب يعرف أنَّه قد خُلق مجدّدًا بفضل انصهار بؤسه مع مغفرة الله، ولذلك "فهو قلب قد نال رحمة ويعطي رحمة". وهكذا يختبر منافع النعمة على جرحه وخطيئته ويشعر أنَّ الرَّحمة تهدِّئ ذنبَه وتسقي بمحبّة جفافه وتشعل مجدّدًا رجاءه.
لذلك، وعندما، في الوقت عينه وبالرَّحمة عينها، يغفر لمن له دينًا ما عليه ويعطف على الذين هم أيضًا خطأة، تتجذّر هذه الرّحمة في أرض صالحة لا يضيع الماء فيها بل يُعطي حياة. في ممارسة هذه الرَّحمة التي تصلح شرّ الآخرين، ما من أحدٍ أفضل للمساعدة في مداواته إلّا ذاك الذي يحافظ على الخبرة الحيّة بأنّه كان بدوره موضوع رحمة فيما يختص بالشرّ عينه.
نرى أن، بين الذين يعملون لمكافحة التبعيّات (والإدمان) والذين قد افتدوا هم عادة أولئك الذين يفهمون ويساعدون ويعرفون كيف يطلبون من الآخرين بشكلٍ أفضل. والمعرِّف الأفضل هو عادة ذاك الذي يعترف بشكلٍ أفضل. إنَّ جميع القدِّيسين الكبار تقريبًا كانوا خطأة كبارًا، أو كالقدِّيسة تريزيا كانوا مُدركين أنَّهم وبفضل نعمة حفظتهم لم يكونوا قطّ خطأة.
هكذا، يكون إناء الرَّحمة الحقيقيّ، الرَّحمة عينها التي نالها كلّ فرد وخلقت مجدّدًا له قلبه، وهذا هو "الخابية الجديدة" التي يتحدّث عنها يسوع (لوقا 5، 37)، "البئر التي شُفيت مجدّدًا". نضع أنفسنا هكذا في إطار سرِّ الابن يسوع الذي هو رحمة الآب المتجسّدة.
نجد الصورة النهائيّة لإناء الرَّحمة من خلال جراحات الرَّبِّ القائم من الموت، صورة لبصمة الخطيئة التي أصلحها الله والتي لا تُمحى بالكامل ولا تفسد: إنّها ندبة وليست جرحًا متقيّحًا. بتلك "الحساسيّة" الخاصة بالندبات التي تذكّرنا بالجرح بدون الكثير من الألم وبالعلاج بدون أن ننسى الهشاشة، هناك تجد الرَّحمة الإلهيّة مقرّها.
في شعور المسيح القائم من الموت الذي يحافظ على جراحه، وليس في يديه ورجليه وحسب وإنّما أيضًا في قلبه الذي هو قلب مجروح، نجد المعنى الصَّحيح للخطيئة والنعمة. بتأمّلنا في قلب الرَّبِّ المجروح نرى انعكاس أنفسنا فيه. فقلبه يشبه قلبنا لأنّهما مجروحان وقائمان من الموت. ولكنّنا نعرف أنّ قلبه هو محبّة خالصة وجُرح لأنّه قبل بذلك، أمّا قلبنا فكان جرحًا وشُفي لأنّه قبل بأن يُحَبّ.
سيساعدنا أن نتأمّل بآخرين سمحوا بأن تخلق الرَّحمة ُ قلوبهم مجدّدًا، وأن نلاحظ في أيِّ إناءٍ قد نالوها. لقد نالها بولس في الإناء القاسي والمتصلّب لحكمه الذي قولبته الشّريعة. لقد دفعته قساوة حكمه ليكون مُضطهِدًا. أمَّا الرَّحمة فقد حولّته لدرجة أنّه وعندما أصبح يبحث عن البعيدين وذوي الذهنية الوثنيّة، كان الأكثر تفهّمًا ورحمة تجاه الذين كانوا مثله.
لقد أراد بولس أن يُعتبر محرومًا في سبيل خلاص خاصَّتِه. وحكمه يتقوّى "بعدم حكمه حتى على نفسه" وإنّما بسماحه لإله أكبر من ضميره بأن يبرّره، مناديًا بيسوع المسيح المحامي الأمين الذي لا يمكن لأحدٍ أو لشيء أن يفصله عن محبَّـته. إنّ جذريّة أحكام بولس حول رحمة الله غير المشروطة والتي تتخطى الجرح الأساسي، ذاك الذي بسببه لدينا شريعتان (شريعة الجسد وشريعة الرُّوح)، والأمر هو هكذا لأنّه الإناء لعقل حسّاس على شموليّة الحقيقة المجروحة بالذات حيث يصبح النّور والشريعة فخًا. "الشوكة" المعروفة التي لم ينتزعها له الرّبّ هي الإناء الذي ينال فيه بولس رحمة الله ( 2 كور 12، 7).
نال بطرس الرّحمة في ادّعائه بأنّه رجل حكيم. كان حكيمًا وصاحب حسٍّ جيّد كصيَّاد يعرف بعد الخبرة متى يمكنه أن يصطاد ومتى لا يمكنه. إنّه حكيم من، وعندما يتحمّس في السَّير على المياه وفي الصَّيد العجيب ويبقي نظره على نفسه، يعرف أن يطلب مساعدة الشخص الوحيد القادر على تخليصه.
إنّ بطرس هذا قد شفي من الجرح الأعمق الذي يمكن أن يتمّ الحصول عليه، جرح إنكار الصَّديق. وربما توبيخ بولس، عندما يعرض ازدواجيّته، يرتبط بهذا. يبدو أنَّ بولس كان يشعر بأنّه الأسوأ "قبل" أن يتعرّف على المسيح؛ لكنّ بطرس قد أنكره بعد أن كان قد تعرّف عليه... ومع ذلك أن يتمّ شفاؤه في هذا الأمر، حوّل بطرس إلى راع رحيم وصخرة ثابتة يمكن أن يُبنى عليها على الدوام، لأنّها صخرة ضعيفة تمّ شفاؤها وليست صخرة تجعل بقوّتها الأشد ضعفًا يتعثّر.
بطرس هو أكثر تلميذ يوبّخه الرّب في الإنجيل. يوبّخه باستمرار حتى النهاية: "لو شِئتُ أَن يَبقى إِلى أَن آتي، فما لَكَ وذلك؟ أَمَّا أَنتَ فَاتبَعني" (يوحنا 21، 22). ويخبر التقليد أنّه ظهر له مجدّدًا عندما كان بطرس هاربًا من روما. إنّ علامة بطرس المصلوب رأسًا على عقب هي العلامة الأكثر أهميّة في إناء شخص عنيد، لكي ينال رحمة، صُلب بهذا الشكل حتى عندما قدّم الشهادة الأسمى لمحبّته للرب. إن بطرس لا يريد أن يختتم حياته بالقول "لقد تعلّمت الدرس" وإنّما "بما أن رأسي لن يتعلّم أبدًا فسأضعه في الأسفل". وأعلى من كلِّ شيء القدمان اللتان غسلهما الرَّبّ. تلك القدمان هما بالنسبة لبطرس الإناء الذي من خلاله ينال الرَّحمة من صديقه وربّه.
يوحنّا سيُشفى في كبريائه بأنْ يُصلح الشرّ بالنار وسينتهي بالكتابة: "يا بني" ويبدو أحد الأجداد الصالحين الذين يتحدثون فقط عن الحبّ، هو الذي كان "ابن الرعد" (مرقس 3، 17). أغوسطينوس قد شفي في حنينه بأنّه قد وصل متأخِّرًا إلى الموعد: "لقد أحببتك متأخّرًا"، وسيجد ذاك الأسلوب المبدع ليملأ الوقت الضّائع بالحبّ من خلال كتابته لاعترافاته.
وفرنسيس ينال الرَّحمة أكثر فأكثر في لحظات عديدة من حياته. وربما الإناء النهائيّ، والذي أصبح جروحًا حقيقيّة، أكثر من تقبيل الأبرص والاقتران بالفقر والشّعور بأن كلّ خليقة هي أخت، سيكون واجب الحفاظ بصمت رحيم على الرّهبنة التي أسسها. فرنسيس يرى إخوته ينقسمون تحت شعار الفقر.
فالشيطان يجعلنا نختلف فيما بيننا في الدفاع عن الأمور الأكثر قداسة ولكن "بواسطة روح شرّير". لقد شُفي اغناطيوس في كبريائه وإن كان هذا هو الإناء، فيمكننا أن نفهم كم كانت كبيرة تلك الرَّغبة بالتفاخر التي تحوّلت إلى سعي لمجد الله الأكبر.
في "مذكرات كاهن رعيّة في الريف"، يقدّم لنا برنانوس حياة كاهن رعيّة في بلدة صغيرة، مستلهمًا من حياة القدِّيس خوري آرس. نجد مقطعين جميلين يُخبران عن أفكار الكاهن الحميمة في اللحظات الأخيرة لمرضه المُفاجئ: "في الأسابيع الأخيرة التي سيسمح لي فيها الله بمتابعة مسؤوليّتي في الرعيّة... سأحاول أن أعمل بقلق أقل للمستقبل، سأعمل فقط من أجل الحاضر. يبدو أن هذا النوع من العمل يُلائمني... ومن ثمَّ أنا لا أنجح إلا في الأمور الصَّغيرة. وإن كان القلق قد جرّبني مرارًا ينبغي علي أن أعترف بانتصاري في الأفراح الصغيرة".
وعاء رحمة صغير، مرتبط بالأفراح الصغيرة لحياتنا الراعويّة، حيث يمكننا أن ننال ونمارس رحمة الآب اللامتناهية في التصرّفات الصغيرة. أمّا المقطع الثاني فيقول: "كلّ شيء قد انتهى. ذاك النوع من عدم الثقة التي كانت تعتريني قد تبدّدت لتوّها وأعتقد للأبد. لقد انتهى الكفاح. والآن لا أرى سببًا لوجودها. لقد تصالحت مع ذاتي مع هذا المنسي الذي أنا عليه. أن يكره المرء نفسه هو أمر أسهل ممّا يمكننا أن نعتقد. والنعمة تكمن في نسيان الذات. ولكن، إذا مات فينا كلّ كبرياء، فستكون نعمة النعم محبّة ذواتنا بتواضع، كمطلق أي عضو متألّم من أعضاء يسوع المسيح". هذا هو الوعاء: "أن نحبّ ذواتنا كمطلق أي عضو متألّم من أعضاء يسوع المسيح". إنّه وعاء مُشترك، كإبريق قديم يمكننا أن نستعيره من الأشدّ فقرًا.
أمّا "الكاهن بروشيرو"، الطوباويّ الأرجنتينيّ الذي ستعلن قداسته قريبًا، "سمح لرحمة الله أن تعمل في قلبه". إناؤه أصبح جسده الأبرص. لقد كان يحلم بالموت على ظهر حماره وهو يعبر أحد الأنهار في طريقه لمنح سرّ مسحة المرضى لمريض ما. وإحدى جمله الأخيرة: "في هذه الحياة لا يوجد مجدٌ مكتمل"، "أنا سعيد جدًّا لما صنعه معي بالنسبة للبصر وأشكره كثيرًا على ذلك. عندما كنت قادرًا على خدمة البشريّة، حافظ على حواسي سليمة وقويّة. أمّا اليوم، وإذ لم أعد قادرًا على الخدمة، حرمني من أحد حواس الجسم. ففي هذا العالم لا يوجد مجدٌ مكتمل ونحن ممتلئون بالبؤس".
إنّ أمورنا تبقى مرَّات عديدة غير مكتملة ومع ذلك فالخروج من ذواتنا هو نعمة على الدوام. يُسمح لنا بأن نترك الأمور لكي يباركها الرَّبّ ويُتقنها. لا يجب علينا أن نقلق كثيرًا. هذا الأمر يسمح لنا بالانفتاح على آلام وأفراح إخوتنا. قال الكاردينال فانتوان إنّ الرَّبّ قد علّمه في السِّجن أن يميّز بين "أمور الله" التي تكرّس لها في حياته ككاهن وأسقف عندما كان حرًا، والله الذي تكرّس له عندما كان مسجونًا (راجع "خمسة أرغفة وسمكتان"، سان باولو، 1997).
بصعودنا لسلّم القدِّيسين، بحثًا عن آنية للرَّحمة، نصل إلى العذراء. إنَّها الإناء البسيط والكامل الذي بواسطته ننال الرَّحمة ونوزّعها. إنّ الـ"نعم" الحرّة التي قالتها للنعمة هي الصورة المعاكسة للخطيئة التي حملت الابن الضال نحو العدم. فهي تحافظ بملئها على رحمة هي في الوقت عينه تخصّها كثيرًا وتخصّ نفسنا وتخصّ الكنيسة.
كما تؤكّد في نشيدها "تعظّم نفسي الرَّبّ": تعرف أنّه قد نُظر إليها بصلاح في صغرها وتعرف كيف تنظر إلى رحمة الله التي تطال جميع الأجيال. هي تعرف أن ترى الأعمال التي تنشرها رحمة كهذه وتشعر في الوقت عينه أنّ هذه الرَّحمة قد قبلتها مع شعب إسرائيل بكامله. هي تحافظ على الذكرى والوعد لرحمة الله اللامتناهيّة تجاه شعبه.
ونشيدها "تعظّم نفسي الرَّبّ" يرتفع من قلب صادق ينظر إلى التاريخ وإلى كلِّ شخص برحمتها الوالديّة. في تلك اللحظة التي أمضيتها وحدي مع مريم، والتي أهداني إيَّاها الشعب المكسيكي، وإذ وجّهت نظري إلى العذراء سيّدة غوادالوبيه وسمحت لها بأن تنظر إليّ، سألتها من أجلكم، أيّها الكهنة الأعزاء لكي تكونوا كهنة صالحين.
وفي كلمتي للأساقفة قلت لهم أنني فكّرت طويلاً حول سرّ نظرة مريم وحول حنانها وعذوبتها التي تبعث فينا الشّجاعة لنسمح لرحمة الله بأن تبلغنا. أريد الآن أن أذكّركم ببعض "أساليب" العذراء في النظر لاسيَّما نظرها إلى كهنتها لأنّها تريد من خلالنا أن تنظر إلى شعبها.
تنظر إلينا مريم بأسلوب يجعل المرء يشعر بأنّه قد قُبل في حشاها. هي تعلّمنا أن "القوّة الوحيدة القادرة على امتلاك قلب البشر هي حنان الله. فما يجذبنا ويسحرنا ويفتح السلاسل ويحلّها ليست قوّة الأدوات أو قساوة القانون وإنّما ضعف قدرة المحبّة الإلهيّة أي قوّة عذوبته ورحمته" (الخطاب لأساقفة المكسيك، 13 شباط 2016).
إن ما تبحث عنه شعوبها في عينيها هو "حشا حيث يذهب إليه البشر الأيتام والمنفيِّين بحثًا عن حماية ومنزل". وهذا الأمر يرتبط بأساليبها في النظر: إنّ الفسحة التي تفتحها عيناها هي فسحة حشا لا فسحة محكمة أو عيادة "مهنيّة". إن تنبّهتم مرّة أن نظركم قد أصبح قاسيًا وأنّكم عندما تقتربون من الأشخاص تشعرون بالانزعاج أو لا تشعرون بشيء، أنظروا إليها مجدّدًا ، أنظروا إليها بأعين الأصغر في شعبها، الذين يتسوّلون حشا، وهي ستطهِّر نظركم من كلِّ "كاتاراكت" لا يسمح برؤية المسيح في النفوس، وستشفيه من كلِّ قصر نظر يجعل مُزعجة حاجات الأشخاص، التي هي أيضًا حاجات الرَّبّ المتجسّد، ومن كلِّ قصوِّ بصر يضيع التفاصيل و"الحروف الصغيرة" حيث تتم الوقائع المهمّة في حياة الكنيسة والعائلة.
أسلوب آخر لمريم في النظر يرتبط بالنسيج: فمريم تراقب "وهي تنسج" وهي ترى كيف يمكنها أن تجمع في سبيل الخير جميع الأمور التي يحملها إليها شعبها. لقد قلت لأساقفة المكسيك أنّ "الله قد نسج في تكوين الرُّوح المكسيكيّة وجه ظهوره في سيّدة غوادالوبي". يعلّم أحد المعلّمين الرُّوحيِّين أنَّ ما يُؤكّد عن مريم بطريقة شخصيّة يؤكّد أيضًا عن الكنيسة الجامعة وعن كلِّ نفسٍ بشكلٍ خاصّ.
وإذ نرى كيف نسج الله وجه وصورة سيّدة غودالوبي في ثوب خوان دييغو يمكننا أن نصلّي متأمّلين كيف تنسج روحنا وحياة الكنيسة. يُقال إنّه لا يمكننا أن نرى كيف رُسمت الصورة. فهي كما ولو طبعت. يطيب لي أن أُفكِّر أنّ الأعجوبة لم تكن فقط "طباعة الصورة أو رسمها بريشة"، وإنّما "بأن الثوب قد خُلق مجدّدًا بكامله"، وتحوّل من رأسه إلى أسفل القدمين، وكلّ خيط - تلك التي تتعلّم النساء منذ الصغر أن تنسجها، وللألبسة الأنعم نحتاج إلى خيوط من قلب الماغواي (التي تُستخرج الخيوط من أوراقها) - كلّ خيط في مكانه تحوّل، وأخذ تلك الألوان التي تأخذ مكانها ومن خلال نسجه مع خيوط أخرى تُظهر جميعها وجه العذراء وشخصها وما يحيط بها.
هكذا تفعل الرَّحمة أيضًا لا ترسم لنا من الخارج وجه أشخاص صالحين، بدون أن تستعمل الـ "فوتوشوب"، وإنّما بخيوط بؤسنا وخطايانا المحبوكة بمحبّة أب تنسجنا بطريقة لتتجدّد نفوسنا وتستعيد صورتها الحقيقيّة، صورة يسوع.
ولذلك كونوا كهنة "قادرين على التشبّه بحريّة الله الذي يختار ما هو متواضع ليُظهر عظمة وجهه، وعلى التشبّه بصبره الإلهيّ لينسج فيكم الإنسان الجديد الذي تحتاجه بلادكم. لذلك لا تسمحوا للبحث العقيم على تغيير شعبكم بأن يستحوذ عليكم كما ولو أن محبَّة الله لا تملك القوَّة الكافية لإحلال هذا التغيير" (الخطاب لأساقفة المكسيك، 13 شباط 2016).
أمّا الأسلوب الثالث فهو الانتباه: مريم تراقب بانتباه، تكرّس ذاتها بكليتها وتلتزم بالكامل مع الذي يقف أمامها، وكالأم عندما تكون متنبّهة لابنها الذي يخبرها شيئًا ما. "كما يعلّمنا التقليد إنّ سيّدة غوادالوبي تحفظ نظرات الذين يتأمّلون بها وتعكس وجه الذين يلتقون بها. ينبغي علينا أن نتعلّم أنّ هناك شيئًا فريدًا في كلِّ شخص من الذين ينظرون إلينا بحثًا عن الله، وبالتالي لا يمكننا أن نصبح غير مبالين بهذه النظرات، وإنّما ينبغي علينا أن نحافظ على كلٍّ منها ونحفظها في قلوبنا ونحميها" (المرجع نفسه).
وحدها كنيسة قادرة على حماية وجه البشر الذين يقرعون على بابها هي قادرة أن تكلّمهم عن الله. إن لم نفسّر آلامهم وإن لم نتنبّه لحاجاتهم فلا يمكننا أن نقدّم لهم شيئًا. إن الغنى الذي لدينا يتدفّق فقط عندما نلتقي بفقر الذين يتسوّلون، وهذا اللقاء يتمُّ بالذات في قلوبنا، قلوب الرُّعاة. لقد قلت لأساقفتكم أن يتنبّهوا لكم، أنتم كهنتهم، "وألا يتركوكم عرضة للوحدة والإهمال، وفريسة لروح العالم الذي يلتهم القلب" (المرجع نفسه).
إنّ العالم يُراقبنا بانتباه ولكن ليلتهمنا ويحوّلنا إلى مستهلكين... جميعنا بحاجة لأن يُنظر إلينا بتنبّه واهتمام مجاني. "تنبّهوا – قلت للأساقفة – وتعلّموا كيف تقرؤون نظرات كهنتكم لتفرحوا معهم عندما يشعرون بفرح أن يخبروا بما "عَمِلوا وعلَّموا" (مرقس 6، 30)، وأيضًا لكي لا يتراجعوا عندما يشعرون بأنّهم مهانون ولا يمكنهم إلّا أن يبكوا لأنّهم أنكروا الرَّبّ ( لوقا 22، 61- 62)، ولتعضدوهم أيضًا، بالشركة مع المسيح عندما يكون أحدهم موهن العزيمة فيخرج مع يهوذا "في الليل" (راجع يوحنا 13، 30). في هذه الحالات لا تغيبنَّ أبوّتكم أنتم الأساقفة عن كهنتكم. شجّعوا الشركة فيما بينهم وساعدوهم على تحسين مواهبهم وإشراكهم في الأمور الكبيرة، لأنَّ قلب الرّسول لم يُصنع للأمور الصغيرة".
وختامًا، مريم تنظر بأسلوب "شامل"، وتوحّد كلّ ماضينا والحاضر والمستقبل. لا تملك أيّة نظرة مُجزّأة: فالرَّحمة ترى الشموليّة وتدرك ما هو ضروريّ أكثر. على مثال مريم في قانا القادرة على الشعور بالشفقة قبل الأوان لِما سيسببه نقص الخمر في حفلة العرس وتطلب من يسوع أن يجد حلاً، بدون أن يتنبّه أحد للأمر، هكذا يمكننا أن نرى حياتنا الكهنوتيّة بكاملها كأنّها "تستبقها رحمة" مريم التي، وإذ تتوقـّع نقصنا، قد أمّنت لنا كلّ ما نحتاجه.
إن كان في حياتنا القليل من "الخمر الجيّدة"، فليس بسبب جدارتنا، وإنّما بفضل "رحمتها المُسبقة"، تلك التي أنشدتها في نشيدها تعظـِّم نفسي الرَّبّ: كيف نظر الرَّبُّ "إلى تواضعها" و"ذكر (عهد) رحمته"، رحمة تمتدّ "إلى أجيال وأجيال" على الفقراء والمضطهدين ( لوقا 1، 46- 55). إنَّ القراءة التي تقوم بها مريم هي قراءة التاريخ كرحمة.
يمكننا أن نختتم بتلاوة صلاة "السّلام عليك أيّـتها الملكة" التي في تضرعاتها يتردّد صدى روح "تعظّم نفسي الرَّبّ". هي أمُّ الرَّحمة حياتنا ولذّتنا ورجانا. عيناها الرَّحيمتان هما اللتان نعتبرهما أفضل إناء للرَّحمة، بمعنى أنّه بإمكاننا أن نشرب فيهما تلك النظرة المتسامحة والصالحة التي نعطش لها كالعطش لنظرة معيّنة.
العينان الرحيمتان هما أيضًا اللتان تجعلانا نرى أعمال رحمة الله في تاريخ البشر ونكتشف يسوع في وجوههم. في مريم نجد الأرض الموعودة – ملكوت الرَّحمة الذي أقامه ربّنا – التي تأتي في هذه الحياة بعد كلِّ منفى ترسلنا إليه الخطيئة. وإذ تمسكّنا بيدها وتحت نظرها يمكننا أن ننشد بفرح عظمة الرَّبّ.
يمكننا أن نقول له: نفسنا تنشدك يا ربّ، لأنّك قد نظرت إلى تواضع وصغر خادمك. طوبى لي لأنّه غُفر لي! إن رحمتك التي أظهرتها نحو جميع قدّيسيك ومع شعبك المؤمن بأسره قد بلغتني أيضًا. لقد ضعت، بإتباعي لنفسي وبسبب كبرياء قلبي ولكنني لم أجلس على أي عرش يا ربّ، ومجدي الوحيد هو أن تأخذني أمّك بين ذراعيها وتغطيني بردائها وتحفظني قريبًا من قلبها. أرغب بأن تحبّني كواحد من بين الأكثر تواضعًا في شعبك، وأن أُشبع بخبزك الذين يجوعون إليك. تذكر يا ربّ عهدك، عهد الرَّحمة مع أبنائك، كهنة شعبك، بأنّنا مع مريم بإمكاننا أن نكون علامة وسِرًّا لرحمتك.
موقع الكرسي الرسولي.