مع الله، ما دام القلب نابضًا بالحياة، فكلّ شيء ممكن، وكلّ الطرق مفتوحة، وكلّ الآمال مطروحة. لا يأس، ولا خوف، ولا حكم. تكمن رغبة الله للإنسان في الحياة والفرح والنّور، وعبر طرقنا المتعرِّجة وإرادتنا المتردّدة يعرف كيف يقودنا إلى الحقّ والسّلام.
فهو يحوّل كلّ الأمور لخير من يحبّونه (رو8: 28)، حتى الخطيئة، فلديه "لا يظلم الظلام واللّيل يُضيء كالنّهار" (مز 139: 12). ما يتصوّره الإنسان نهاية المطاف يحوّله الله إلى بداية رائعة، وما يراه الإنسان سوادًا حالكًا يشعّ فيه الربّ نور فجر جديد. فإلهنا آب يخلق مجدّدًا في كلّ لحظة من زمن حياتنا، لا يكفّ عن مساندتنا وحمايتنا، ولا يتوقـَّف عن الترفـُّق بنا وإحاطتنا بفيض نعمه. يعطي "الرّوح بغير حساب" (يو3: 34)، و"كَيلا ملآنًا مكبوسًا مهزوزًا فائضًا" يلقي في أحضاننا (لو6: 38).
لا يرى الإنسان سوى اللّحظة الحاضرة، وإذا كانت حزينة قاتمة، تصوّر المستقبل مغلقـًا، ضائعًا. أمّا الله فيظل واثقـًا بقلب الإنسان، وبرغبته في الحياة، وبقدرته على اختيار طريق الصدق والنّور. فالله عندما ينظر إلينا يجد صورته مطبوعة في قلبنا، وحبّه متأصِّل فينا قبل أن نُكوَّن في بطن أمَّهاتنا.
فنحن أبناؤه وبناته، ولدنا في قلبه قبل إنشاء الله، واختارنا لنكون عنده قدّيسين بلا لوم في المحبّة (أف1: 4). يراهن الله دائمًا على قدرتنا على الإنصات إلى صوت الحياة في قلبنا، وعلى انتصار نداء الفرح والسّلام على ما يثير في داخلنا شهوة المال والمجد والجسد، ويتركنا في الوقت نفسه بائسين، متحيّرين وحزانى.
في الابن يسوع، أعطانا الله كلّ ذاته ولم يبقِ لنفسه شيئًا، أفتقر تمامًا لنغتني بحياته وروحه القدّوس. ولكنّه يظل يدقّ على الباب، لأنّ الحبّ يعني قبل كلّ شيء احترام حرّيّة المحبوب، فإن سمع أحد صوته وفتح الباب، دخل إليه وتعشّى معه (رؤ3: 20).
فالله القدير لا يمكنه أن يقتحم قلبنا بل يرجو حرّيتنا، ينتظرها بثقة ورجاء لا حدّ له، ويوقظنا بمحبّته من غفلتنا وإنزلاقنا في طرق مسدودة وغير بنّاءة. فقرار الحياة يعود إلينا، وطريق الفرح مفتوح أمامنا، والسُّبل كلّها مهيّأة لنا حتّى نتقدّم في النّور والسّلام.
وهذا ما فعله العشّارون والبغايا، سمعوا يوحنّا يناديهم للحياة فلبّوا النداء، وخرجوا من سجن الخطيئة وأسر الحزن (متى 21/ 28- 32). لم ينغلقوا على ذواتهم، بل انفتحوا على مغفرة الله الغامرة، وعرفوا أنّ "المحبّة تستر كلّ الذنوب" (أم 10: 12)، "وحيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة" (رو4: 20)، وأدركوا أن الله قادر على أن يخلع عنهم قلب الحجر وأن يمنحهم قلبًا من لحم (حز 36: 26).
صار الآخرون أوّلين، والبعيدون قريبين، والمشتّتون أسرة واحدة من إخوة وأخوات لآب واحد. شعر العشارون والبغايا بعطشهم إلى الحبّ الحقيقيّ، وإلى الكرامة والشّعور بالرِّضا عن الذات، وأدركوا أنّ الله يأتي إليهم ليروي ظمأهم ويضمّهم إلى صدره الحنّان.
في محبّة الله ومغفرته، تصالح الخطأة مع ذواتهم وتاريخهم، ولم تعد هناك صفحة مطويّة أو مخفيّة، فالله ينير كلّ شيء ويجعل كلّ شيء جديدًا (رؤ21: 5). وانفتحت عيونهم على معاناة أخوتهم البشر، فأنحنوا عليهم برفق ومحبّة، وأمتلأت قلوبهم بالتضامن مع كلّ أسير للحزن واليأس والخطيئة. فنور الله فينا لا يمكن أن نخفيه، فهو كالشَّمس التي تشعّ بهاءها ودفأها على الناس بدون تمييز أو حدود، وإذا لمسنا الربّ بحنانه اصبحنا بنعمته شهودًا وفعلة للحياة من حولنا.
ولماذا لم يسمعِ الشيوخ والأحبار ليوحنّا المعمدان؟ لأنّهم لم ينصتوا لقلبهم، ولم يتّتبعوا نداء الحياة والفرح في داخلهم. في نظرهم، تحوّل الدين إلى سبب للاكتفاء بالذات، ومن ثمَ أمتلأوا غرورًا وتعاليًا على الآخرين. صُمّت أذانهم عن الاستماع إلى الله الحاضر في حياتهم وحياة الناس، فلم يسمعوا صوت القلب المنادي بالحياة، ولم يدركوا بحث الناس من حولهم عن الصدق والعدل والحرّيّة. نبع الحياة في قلبنا، وفيه يسكن الله. يرافقنا على دروب حياتنا، وينادينا إلى الحياة من خلال كلمات الكتاب المقدّس، أحداث الحياة، أصوات الناس ونداءاتهم، حياة رجال ونساء يشبهون يوحنّا المعمدان في صدق اختياراتهم ومواقفهم.
ونحن اليوم، لا يهمّ ما قد مضى، وإن سمعنا صوته فلا نقسّي قلوبنا (مز95: 8)، بل نعود إليه لأنّ المستقبل واعد، رائع، عظيم، وطريق المحبّة والفرح والسّلام مفتوح على مصراعيه. ينتظر عالمنا رجالاً ونساءً يعرفون معنى الضعف ولكنّهم قاموا من سقطتهم، ساروا يومًا في طريق مظلم ولكنّهم عادوا إلى النّور، قالوا لا للحياة في وقت ما ثمّ ندموا ورجعوا إلى ذواتهم بنعمة الله السَّاكن فيهم. يحتاج عالمنا إلى شهود حياة غلبوا الموت، رجال ونساء رجاء تفوَّقوا على الحزن واليأس في داخلهم. يصرخ عالمنا طالبًا تلاميذًا ليسوع يعلنون له ربّ الحياة والفرح والسّلام، يقودوه إلى نبع الحبّ والمغفرة.
الأب نادر ميشيل اليسوعي.