1. في مسيرتنا نحو الميلاد، تتذكَّر الكنيسة في هذا الأحد مولد يوحنّا المعمدان والسّابق. فكان آخر نبيّ من أنبياء العهد القديم، الذين تنبّأوا عن المسيح، وأوّل رسول من رسل العهد الجديد الذين بشّروا بقدومه. بمولد يوحنّا تعتلن رحمة الله الخلاصيّة لجميع النّاس. ولذا أوحى الملاك لأبيه زكريّا أن يسمّيَه يوحنّا الذي تفسيره "الله رحوم". يوحنّا السّابق ليسوع بستّة أشهر أعلن أنّ رحمة الله تتجلّى وتأخذ جسدًا بشخص ابن الله المتجسِّد من مريم. فأصبح للرَّحمة اسم في تاريخ البشر هو يسوع المسيح. من أجل قبول رحمة الله، جاء يوحنّا يهيِّئ القلوب لها، داعيًا إلى التوبة، وممارسًا معموديّة الماء لغفران الخطايا.
هذه الفترة الاستعداديّة لعيد الميلاد تدعونا للدّخول في مسيرة التوبة، والانفتاح لرحمة الله، من أجل التجدّد بالنعمة، وتجديد صورة الله فينا. فالإله صار إنسانًا، ليُعيد الإنسان إلى جوهر إنسانيّته.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، وأن نرحّب بكم جميعًا، ونحيّي بنوع خاصّ أشقاءَ المثلّث الرّحمة المطران يوسف الخوري، مطران أبرشيّة مار مارون كندا السّابق، وأنسباءه. وقد ودّعناه معهم منذ أسبوعَين. نذكره اليوم في هذه الذبيحة الإلهيّة ملتمسين له الرّاحة الأبديّة في السّماء ونجدّد تعازينا لأشقّائه وشقيقاته وعائلاتهم. ونحيّي بيننا أيضًا أفراد عائلة المرحومة ماغي أبو سليمان التي ودّعناها معهم ومع أهالي المتين منذ خمسة وعشرين يومًا. نلتمس لها الرّاحة الأبديّة في بيت الآب ولأسرتها العزاء الإلهيّ.
3. يبدأ النصّ الإنجيليّ بالقول أنّه "لمّا تمّ زمان إليصابات لتلد، ولدت ابنًا. هذا "إتمام الزمن" لا يعني فقط زمن الشّهر التاسع الذي تلد فيه المرأة مولودها، بل يعني أيضًا زمن تحقيق الله وعده، واتّكال زكريّا وإليصابات على عنايته، واكتمال زمن انتظارهما لتجلّي رحمة الله.
حياتنا كلّها، كمسيحيِّين، في حالة انتظار لتجلّيات إرادة الله وتحقيق تصميمه الخلاصيّ في تاريخنا البشريّ. والانتظار صلاة وتأمّل وسهر وأمانة لله ولرسومه، وبخاصّة في الظروف الصّعبة والمعاكسة والمظلمة والغامضة. ثمرة انتظار زكريّا وإليصابات، وأمانتهما لله وللواجب، ظهرت في هبة يوحنّا الذي قال عنه الربّ يسوع: "لم يولد في مواليد النساء مثل يوحنّا" (لو7: 28).
4. "إتمام الزمن" يتحقـّق في كلّ واحد وواحدة منّا، كشريك لله في بناء تاريخنا البشريّ على قيم تاريخ الخلاص. ويتحقـّق على الأخصّ في كلّ مسؤول في الكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة. فينبغي أن يجعله زمنَ حقيقةٍ وعدالةٍ ومحبّة وحريّة بمفهومها الموضوعيّ لا النسبيّ. وهي الزوايا الأربع التي يرتكز عليها بناء البيت الكنسيّ والعائليّ والاجتماعيّ والوطنيّ.
بسبب الخلل في هذه الزوايا تعثّر سابقـًا انتخاب رئيس للجمهوريّة على مدى سنتَين وخمسة أشهر، ذهبت كلّها ضياعًا وخلّفت في الوقت عينه نتائج وخيمة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، وفي نشاط المؤسّسات العامّة. واليوم، بعد شهر كامل على تكليف رئيس الحكومة الجديد تشكيلها بالاتّفاق مع رئيس الجمهوريّة، بحيث تكون جامعة وقادرة وفقـًا للميثاق الوطنيّ والدّستور، نخشى أن يتعثّر هذا التشكيل للخلل نفسه، ولمدّة غير معروفة، على حساب المصلحة الوطنيّة العليا، وممارسة مهامّ السلطة الإجرائيّة، كما يقتضيها الدّستور. لا يُمكن أن تسلم حياة اجتماعيّة ووطنيّة، والحقيقة مغيَّبة، والعدالة منتقصة، والمحبّة جافّة في القلوب، والحرّية أسيرة المصالح الشخصيّة والفئويّة. فإنّنا نناشد من جديد الكتل السياسيّة والنيابيّة التقيّد بالدستور وبوثيقة الوفاق الوطنيّ، والموآزرة في تسهيل تشكيل الحكومة، واضعين أمام أعينهم خير البلاد، وقيام دولة المؤسّسات والقانون، والصّالح العامّ.
في هذا الأحد الذي نحيي فيه مولد يوحنّا، المعلِن باسمه وبرسالته، رحمة الله ودعوة البشر إلى اختبارها وممارستها، نأمل من المسؤولين في أيّ قطاع أن يمارسوها حقيقة وعدالة ومحبّة وحريّة، من خلال القيام بواجبات حالتهم.
5. إن اختيار اسم يوحنّا للمولود الجديد جاء بتناغم كامل بين إليصابات وزكريّا الأبكم: فهي بوحي من الرّوح القدس الذي ملأها يوم زيارة مريم العذراء لها، وهو من فم الملاك جبرائيل. هذا التناغم يكشف قيمة الزواج كسرّ، أي كأداة تنقل النعمة الإلهيّة، وتجعل الله حاضرًا في حياة الزوجَين والعائلة. ولهذه الغاية رفع الربّ يسوع مؤسّسة الزواج الطبيعيّة إلى مرتبة سرٍّ مقدّس، لكي ينير درب الزوجين والوالدين بكلام الحياة وإلهامات الرّوح، ويقوّيهما في الضعف، ويعزّيهما في الحزن، ويشدِّدهما في المِحن، ويعضدهما في القيام بواجب الإيلاد والتربية والإعالة.
6. في سرّ الزواج يقطع العروسان عهدًا مثلَّثًا، مرموزًا إليه بالخاتمَين.
العهد الأوّل هو عهد الحبّ بينهما بحيث يلتزم كلّ واحد شخصيًّا بإسعاد الآخر مدى العمر، بقوّة الحبّ الإلهيّ الذي يقدّس حبَّهما بحلول الرّوح القدس، ويجعله وسيلة لتقديس الذات الزوجيّة.
والعهد الثاني هو عهد الأمانة لله ولكلامه ورسومه، وللدّعوة السّامية التي يلبّيانها في سرّ الزواج ورسالته.
والعهد الثالث هو مع العائلة البشريّة، من خلال الإلتزام بنقل الحياة البشريّة عبر الإنجاب والتربية والإعالة. بهذا الإنجاب يُحفظ إرث الوالدين وتراث العائلة، وينمو الجنس البشريّ، ويُعطى الحقّ لكائنات بشريّة جديدة أن تولد وتنعم بخيرات الأرض والسّماء. فالحبّ بحدّ ذاته خلّاق ومعطاء.
7. إننا نصلّي اليوم من أجل الأزواج والوالدين، ومن أجل كلّ عائلة، في زمن صعب عليهم وعليها، اقتصاديًّا وأخلاقيًّا وروحيًّا؛ لكي ينعموا بالاستقرار، ويدركوا حضور الله في حياتهم الزوجيّة والعائليّة لخيرها ومساعدتها. وليرتفع، من كلّ عائلة دمويّة وكنسيّة ووطنيّة، نشيدُ المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.