إنّه يسوع من يطرح هذا التساؤل حين يرى الجمع الكبير الذي يأتي إليه بعدما رأوا الآيات التي أجراها على المرضى (يو6/ 1- 15). حاجات الناس كثيرة، وجوع البشر كبير، وأيّ خبز يمكنه أن يشبعهم حقًّا؟ ما يروي ظمأ الناس إلى النّور والفرح والسَّلام، وما يردّ على رغبة قلبهم في الحرّيّة والكرامة والعدالة، لا يمكن مجهود بشر أن يحقـِّـقه تمامًا.
في عمق القلب، يتطلّع الناس إلى حبٍّ يعطي حياتهم معنىً، يخلع عنهم الإحساس بأنّهم متروكون في العالم بلا سنيد ولا صديق، بلا أخ ولا أب.
ويفهم يسوع أنّ حاجة البشر إلى الشِّفاء والغذاء كبيرة ومتنوّعة، مشروعة وحقيقيّة، وتتطلّب بذل مجهود صادق وجاد لتلبيّتها. ولكنّه يدرك رغبة قلب الإنسان العميقة أيضًا، وما يريده يسوع هو أن يلمس قلب البشر وأن يشفيه. وعندئذ سيجد النّاس طرق التضامن والمشاركة والتعاون التي تساعدهم في الرَّد على حاجاتهم الماديّة والمعنويّة.
سيعرفون أن يستخدموا الوسائل المتاحة لهم، حتّى وإن كانت صغيرة وقليلة، ليشبعوا جوع إخوتهم للطعام واحتياجهم للملبس والمسكن والتّعليم والصّحة، تطلّعهم للعدالة والكرامة والحرّيّة.
حيال الخمسة الآف رجل لم يجد إندراوس أحد تلاميذ يسوع سوى خمسة أرغفة من شعير وسمكتين، ويتساءل "ما هذا لمثل ذاك الجمع؟". إنّه محقّ، ولكنّ يسوع يفرح بالموجود، بما يكفي طفل أو طفلين بالكاد، ويشكر الله آباه على ما يمنحه إيّاه عبر أيديّ صبيّ.
يملك يسوع قلب طفل، لأنّه مستقرّ في الإيمان بأبيه واثق بمحبّته ورحمته وعنايته. لذا يمتلأ قلب يسوع بالسَّلام، ويطلب من تلاميذه أن يُقعدوا الناس. انتقل السَّلام من قلب يسوع إلى التلاميذ، ومنهم إلى جموع النّاس الغفيرة، وهذا كلّه قبل أن يرى أحدٌ الخبز القادم ولا السَّمك الوفير.
إيمان يسوع بالآب هو تيّار نور ورجاء للإنسان، هو شفاء القلب وغذاؤه الحقيقيّ. كان الناس ينتظرون ما يسدّ جوعهم، ولكنّ سلام يسوع وسكناه في قلب الآب صار هو الطعام المنشود. وفي الفرح والشكر أكل الجميع وشبعوا ورفعوا من الكسر اثنتي عشرة قفـَّة.
ولكنّ الناس، أمام الوفرة الماديّة، ينسون سريعًا رغبة قلبهم الأساسيّة في الحبّ والفرح والسّلام، ويندفعون بحثًا عن الخبز بوجوهه المُختلفة. فلمّا رأوا الآية التي أتى بها يسوع، همّوا باختطافه ليقيموه ملكًا (يو 6: 15)، يرفع عنهم عناء العمل المشترك لزرع الأرض وبناء المجتمع الإنسانيّ.
يختلط الأمر على البشر، يعتقدون أنّ الأكل سيشبع البطون والقلوب، ويتصوّرون أنّ ملوكهم مَن يعطوهم خبزًا هم بالضرورة من يمنحوهم حبًّا واحترامًا وتقديرًا. بالتأكيد الخبز أساسيّ للحياة، والسَّمك مفيد لبناء الجسد، ولكنّ لا يجب أن يسدّ الطعام أذنينا عن نداء القلب إلى الحياة والصدق.
أمّا يسوع فينصرف ويعود وحده إلى الجبل ليصلّي بالتأكيد، ليسمع كلمة الآب ويكمّل مسيرته مع البشر كي يمنحهم قوت القلب. يعرف يسوع أنّه "ما بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فمّ الله" (متّى 4: 4)، وهو الكلمة التي صار بشرًا وسكن بين النّاس (يو 1: 14)، ويُدرك في مناجاته مع الآب أنّه هو الخبز الحقيقيّ الذي نزل من السَّماء ويُعطي العالم الحياة (يو 6: 33). سيبذل يسوع ذاته، يعطي جسده ودمه من أجل حياة العالم (يو 6: 51، 53).
لا يمكن يسوع أن ينفي حاجة البشر إلى الخبز، ولكنّه يريد أن يملأ قلوبهم بروح البنوّة الذي يحرّرهم من الفزع والنهم والجشع. سيفيض الخبز ويشبع النّاس كلّهم متى عرفوا طريق السَّلام في داخلهم، ووثقوا بالآب الذي يعرف ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب وملبس، فيطلبون أوّلاً أن يسكن في قلوبهم بالإيمان، حتى تنفتح أعينهم على الفيض الوفير (متّى 6: 32-33).
إذا صار القلب حرًّا، أي مستقرًّا بكلّ ثقة في حضن الآب، عرف الإنسان أن يشارك القليل مع جاره، بل صار النّاس كلّهم إخوة له، وتشاركوا في ما تنعم الأرض عليهم.
ونحن اليوم، ماذا نطلب من يسوع أوّلاً؟ ولماذا نريده ملكًا علينا؟ ليمنع عنّا جوع البطن أم ليملأ اشتياق القلب إلى الفرح والنّور والسَّلام؟ هل البطن هو الطريق إلى القلب، أم القلب هو من يعلّم الجسد كيف يأكل وكيف يُقاسم أخاه الخبز؟ إنّ يسوع معنا في كلّ حين، يسكن في بشريّتنا وواقعنا الإنسانيّ، يملأ قلبنا بحضوره حتى ننتبه بعضنا لبعض، ومعًا نحترم الخليقة ونأكل من خيراتها.
الأب نادر ميشيل اليسوعي.