أين نحن من الفرح؟ أين نحن من السلام؟ أي مفهوم لنا عن كل من الفرح والسلام؟
أغلب عائلاتنا تعيش اليوم حزن عميق لفقدانها أحد أفرادها. وكلنا نتشوق إلى السلام. فكيف يمكننا الاحتفال والابتهاج؟ هل نضع، في هذه المناسبة، الواقع بين قوسين، ونعيش كما لو أن شيئاً لم يكن؟
أليس هذا ما يتهمنا به الآخرون؟ ماذا نقول لأطفالنا وشبابنا عن عيد الميلاد؟ نظريات وعبارات جميلة لا علاقة لها بالواقع؟ ماذا نقول لهم؟ هل مفهومنا للميلاد هو مجرد ذكرى تمت منذ ألفي عام؟
هل هناك شيء من الفصام بين الواقع وبين احتفالاتنا؟ كيف يمكن أن نفهم ونعيش الميلاد ضمن وفي عمق ما نعبر به ونعيشه اليوم في واقعنا، واقع بلدنا؟ كيف أستطيع أن أحمي أطفالي من الخوف والقلق؟
من جهة هذا حق وواجب على الأهل، لكن من جهة أخرى ماذا يعني؟ أن أحمي أطفالي كالدجاجة، أضعهم تحت جناحي ولا أدع الواقع يمسهم؟ أية مثالية هذه؟ وهل من الممكن أن تؤدي إلى شيء إيجابي؟
والكثير من شبابنا يقولون لنا لم تربونا على الواقعية. عندما ننخرط في واقع العمل نتفاجئ بهذا الواقع المليء بالنفوس السيئة والصراعات على المناصب وغيرها، الخ. لم تربونا على هذا الواقع. كنّا نجهله كليّة، ومن هنا تأتي مفاجئتنا وصعوبة تأقلمنا! ماذا نقول لأطفالنا وشباننا عن عيد الميلاد؟ كيف نعيشه نحن الكبار اليوم؟
إحدى مشاكلنا الإيمانية الأساسية تكمن في «روحنة» الأمور بالمعنى السلبي للكملة. وبالتالي نضع البعد الإنساني ـــ الواقعي بين قوسين. كما لو أن الروحي هو خارج الواقع. فيصبح البعد الروحي هروب من الواقع وهذا عكس التجسد كلية.
إلى أي حد نعي مدى العلاقة بين الميلاد والواقع، بين الميلاد والألم، بين الميلاد والتخلي، بين الميلاد والموت، وهل ننقل هذا الأمر لأطفالنا وشباننا؟ إذا تمعنّا بمشهد الميلاد ومشهد القبر نلاحظ أولاً، على صعيد الظاهر، وجود نقاط مشتركة بينهما ذات أهمية كبيرة.
فالعبارة «مقمّط ومضجع في مذود»، تعني أنه بدون حراك، بطريقة ما هو في قبر. مسبقاً، إنه مكبل، مسبقاً، مسلَّم، كما ستكون حاله بعد ثلاثين سنة على الصليب من أجل ولادة ثانية.
لقد أتى الله إلى هذا العالم، في هذا العالم، عالمه، ومع ذلك تجاهله العالم في أغلب الأحيان «أتى إلى خاصته وخاصته لم تقبله». ونص القيامة يتحدث عن اللفائف التي كانت «تقيد» الجثة في القبر. فاللفائف والتقميط وجهان لحقيقة واحدة.
لاهوتياً، تجسد المسيح هو بحد ذاته تخلي، موت، تخلي عن ذاته، عن ألوهيته، ليكون واحداً منّا. وهذا ما تعبّر عنه كل من أيقونة الميلاد وأيقونة القيامة المتشابهتين بقوة.
وبولس الرسول في نشيد فيلبي (2/ 6 -7) المعروف جداً يقول: «مع أنه في صورة الله لم يعدَّ مساواته لله غنيمة، بل تخلى عن ذاته.... لذلك أقامه الله من بين الأموات». لا يمكن أن نفصل الميلاد، وبالتالي التجسد، عن الموت والقيامة. إنهما وجهان لحقيقة واحدة.
لا يمكن للمسيح أن يولد فينا، لا يمكننا أن نولد من جديد خارجاً عن التخلي والموت. فالولادة تعني الجديد ولا يمكن أن يكون من جديد دون التخلي والموت عن القديم.
لا يمكن للمسيح أن يولد فينا، لا يمكننا أن نولد من جديد خارجاً عن واقعنا بكل ما فيه. فرسالتنا اليوم هي أولاً أن نتقبل هذا المفهوم ونحاول أن نعيشه، لكي لاحقاً، نستطيع أن ننقله للآخرين.
أن نقبل بأن المسيح لم ولن يولد في عالم مثالي، خالي من الصراعات والألم والموت. المسيح ــــ النور ولد في ظلمة المغارة، وتجسد في عالم كعالمنا، وأخذ جسداً كجسدنا. ونُبذ ورُفض من قبل الكثيرين، لدرجة أنه كان وحيداً في نزاعه ضد الموت وعلى الصليب.
فالولادة الحقيقية للمسيح اليوم عليها أن تتم في عمق ما نعيشه: صراعاتنا، انقساماتنا، حربنا، أحزاننا، الخ. لكي ينيرها ويعطيها المعنى الحقيقي. فالفصل بين النور والظلمة، بين الخير والشر، بين الحقيقة والكذب لن يتم اليوم.
فمنذ خلق العالم وهم متداخلين ببعضهم البعض. وبالتالي من الطبيعي أن نحتفل بالميلاد لكن في ومن خلال ما نعيشه اليوم. وهذا هو رجاؤنا. فالرجاء يعني أن نعيش ما نرجوه على أنه قد تم.
في شفاء المقعد الذي دلّوه من السقف، لم يلغي المسيح الفراش الذي يرمز لكل ما كان يجعل من هذا الإنسان مقعد، لكن المسيح جعله قادراً على حمله والسير مجدداً: «قم احمل فراشك وامشي».
فقط يوم الحصاد، يوم القيامة يتم الفصل النهائي. أما اليوم علينا العيش مع هذا التداخل بين النور والظلمة، الخير والشر، الحقيقة والكذب. وندع المسيح ــــ النور يولد فيه، لكي يسلط نوره عليه ليتم التمييز الحقيقي.
فلندع كلمة ونور الله يولد في واقعنا لا في أوهامنا وإلاَّ فنحن خارج الحقيقة، نحن في الوهم، في العبودية.
فالحقيقة وحدها قادرة على أن تحررنا لكي نولد من جديد.
الأب رامي الياس اليسوعي.